قبل الخوض في آلية صناعة نظام عالمي جديد،علينا أن نعرف أنَّ هذا النظام هو الإطار المؤسسي والدبلوماسي والسياسي والقانوني الدولي،الناظم للعلاقات الدولية بعضها مع بعضها الآخر،خلال فترة تاريخية معينة.ويعد تفاعل الوحدات السياسية لهذا النظام الخاص بدول العالم تعاوناً وتنافساً وحرباً هو المحرك الأكبر فيه، إضافة إلى كل إطار تنظيمي قادر على التأثير في واقع العلاقات الدولية، مثل المنظمات والحركات السياسية والشركات الكبرى ذات النفوذ العابر للقارات والقوميات والحدود.
إنَّ عملية صناعة نظام عالمي جديد لا تتم دون عمليات دولية معقدة ،لأنَّ العالم لا يزال في مرحلةٍ مبكرة من مراحل صعبة جداً قد تكون عديدة جداً تسبق نشأة النظام الدولي الجديد. إنَّ احتمالية قيام نظام عالمي جديد يحتاج الجديد شرطاً تاريخياً ضرورياً بدونه لا يقوم نظام دولي ،ربما يحتاج إلى قيام حرب عالمية ثالثة.صحيح أن التاريخ يبلغنا وبإصرار أنَّ نظام توازن القوى الذي حافظ على السلم في القارة الأوروبية ،وبالتالي في العالم الغربي وفي العالم بشكلٍ عام بحكم عالمية الهيمنة الغربية على قارة إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية،هذا النظام عمل لمدة قرن كامل على المحافظة على السلم الأهلي،لم ينجرّ إلى نهايته المحتومة إلّا حين خرقت دولة من الدول الأوروبية الكبرى بعض قواعد النظام، وهي القواعد التي أرساها مؤتمر فيينا المنعقد في أعقاب حرب أوروبية شنتها فرنسا ، وهي إحدى دول النظام الأوروبي الدولي وقتذاك .لقد شنت فرنسا حروباً طاحنة ضد معظم دول القارة الأوروبية بغرض تغيير أهم قواعد نظام التوافقات المتعددة والثنائية والأحلاف المؤقتة الذي ساد طبيعة العلاقات الإمبراطورية في أوروبا قبل بدء الثورة الفرنسية.
لقد اهتز ميزان القوى الدولي بعد الخرق المتكرر لعدد من قواعد نظام التوازن الدولي الذي يؤسس للنظام الدولي خلال العقود الأخيرة للقرن ما قبل الماضي ،أي القرن التاسع عشر،فقد قامت ألمانيا بخرق قواعد النظام عدة مرات كونها الدولة القوية الصاعدة في النظام الأوروبي وما يتبعه.وانتهى الأمرعند هذا الحد ،وكما نعلم أيضاً أنَّ بعض تلك الدول استخدمت قوتها العسكرية والاقتصادية ووجودها وسطوتها في حروب التنافس على القارة الإفريقية،وانتهى هذا التنافس بحربٍ عالميةٍ جرّت الولايات المتحدة الأمريكية إلى قلب النظام الدولي،ومهّدت لاندماج أشمل وأشد فاعلية بين الدول،وأفرزت في النهاية شكلاً مبتكراً جديداً لنظام دولي صاغته بعناية فائقة ،ووضعت قواعد عمله الولايات المتحدة الأمريكية،وهي القواعد التي يتم الحديث عنها يوميا ونسمعها باستمرار تتردَّد على ألسنة أعضاء الفرز الأخير للنخبة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية.
إنَّ النخب السياسية والنخب التي تعمل في المجال الاستراتيجي،لا يخفى عليها بأنّ هذه القواعد التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية ،ما هي في الحقيقة سوى فصول مكملة أو بديلة لفصول في القانون الدولي المعتمد دولياً. في عرف هؤلاء السياسيين والاستراتيجيين فإنَّ هذه القواعد الهامة والضرورية لبناء نظام دولي ،لا تلتزم بها جمهورية الصين الشعبية في علاقاتها مع الدول الآسيوية الجارة لها، وفي تعاملها مع جزر بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي.
في حقيقة الأمر نجد أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية ونخبتها السياسية والاستراتيجية لا تنكر وقائع الانحدار في بنية النظام الدولي ، بدليل الشعار الذي راح يتداوله آخر أربعة رؤساء للجمهورية الأمريكية،وهو (إعادة أمريكا)،وهذا الشعار ردّدَهُ وكرَّرَه ُ الرئيس الأمريكي جو بايدن مراراً في المؤتمر الدولي الذي انعقد مؤخراً في جنيف ،وهذا الشعار الذي يعني أن هؤلاء الرؤساء معنيون أو يجب أن يكونوا معنيين باستعادة عظمة الولايات المتحدة الأمريكية .كما لم يخفي رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية وأعضاء نخبتها في الكونغرس وقيادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي ومراكز العصف الفكري الهامة ،حقيقة خارجية ماثلة أمام الجميع تقف عقبة أمام هذه العودة التي على ما يبدو أصبحت صعبة ،خاصةً بوجود جمهورية الصين الشعبية التي تزداد قوةً كل يوم ،وتثبيت نفسها ومكانها ومكانتها بين دول العالم،وتعمل بشكلٍ جاد لتحقيق قوتها الاقتصادية في العالم ،كما تعمل بالدقة اللازمة نحو احتلال مناصب مفتاحية في مؤسسات العمل الدولي المشترك،وهي المؤسسات المسؤولة أولاً وأخيراًعن الاعتماد على القواعد الهامة المُلزِمة كما صاغتها الولايات المتحدة الأمريكية قبل نحو خمس وسبعون عاماً.
لقد ردَّد الخبراء الصينيون مراراُ عبارة أنَّ أمريكا لم تعد كما كانت القوة الوحيدة في العالم التي تمارس نفوذها وقوتها وسطوتها.كما أنها لا تملك مطلق الحرية في السيطرة على المحيط الباسفيكي وأطرافه في جنوب القارة الآسيوية وجنوب آسيا الشرقي.وفي قارة أستراليا على وجه الدقة.هكذا يردِّد الخبراء الصينيون لإيمانهم أنَّ الوضع السابق الذي استمر طويلاً وضع الولايات المتحدة الأمريكية،الدولة الأقوى على الإطلاق في العالم.ونحن لا نعتقد أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية (ستعود)كما كانت ،إلّا إذا تغيرت في المجال العسكري والأيديولوجي في الجوهر وفي الحقيقة.
هل ستشارك آسيا في قيادة العالم ؟ بقلم : عماد خالد رحمة ـ المانيا

المصدرالكاتب للمركز الفلسطينى الأوروبى للإعلام