مما لا شك فيه أن التاريخ البشري والتاريخ السياسي بشكلٍ عام يبخل بإنتاج شخصيات لها قوة شخصية وكاريزما خاصة تستطيع قيادة بلد أو امبراطورية أو ثورة .تلك القيادات السياسية من هذا الطراز تعدُّ قيادات استثنائية .حيث تترك بصماتها المميزة خلال وجودها في السلطة الحاكمة ،لأنه من الصعب توفر قيادات تملك قيادات خاصة مماثلة في القدرات والإنجازات والكاريزما، لخلافتها،عندما تغادر الحياة أو تتقاعد.
المستشارة الألمانية السيدة أنجيلا ميركل واحدة من هذه القيادات الاستثنائية ،والقيادات الخاصة التي قادت ألمانيا على طريق النجاح السياسي والاقتصادي والعمراني والصناعي والتكنولوجي المميز، وتمكنت من قيادة جمهورية ألمانيا الاتحادية في ظروف بالغة الصعوبة، وهي تغادر منصبها في المستشارية بعد ستة عشر عاماً من النجاح الكبير الذي جعل بلادها تتبوأ قيادة الاتحاد الأوروبي بقوة وجدارة ،وتسلك طريق الحياد في سياسة ألمانيا الخارجية ،ومارست الدبلوماسية بأوسع فضاءاتها لصالح بلادها،وعملت بجدٍ واجتهاد على ترسخ استقلالها الكامل بعيداً عن الاصطفافات والتحزبات التي لا تخدم مصالحها.
في ألمانيا يلقب المستشار الألماني رسميا باسم “Herr Bundeskanzler” إذا كان المستشار رجل.أما بالنسبة إلى المستشارة الحالية أنجيلا ميركل ،فقد اعتبرت أقوى امرأة في العالم من قبل العديد من الهيئات والمؤسسات والدول في العالم .كما اعتبرتها أيضاً مجلة فوريس Forbes،تلقب رسميا باسم “Frau Bundeskanzlerin”، الصيغة المؤنثة للّلقب.تم إهمال استخدام الصيغة المختلطة “Frau Bundeskanzler” من قبل الحكومة في عام 2004 لاعتبارها صيغة غير مهذبة.
ومستشار ألمانيا هو رئيس الحكومة في جمهورية ألمانيا الاتحادية .وهو اللقب الرسمي باللغة الألمانية هو Bundeskanzler(in) (حرفياً، المستشار(ة) الاتحادي)، ويختصر في بعض الأحيان إلى Kanzler. يعود تاريخ هذا المصطلح إلى بدايات العصور الوسطى،وهو مشتق من المصطلح اللاتيني cancellarius.
في مناهج السياسة الألمانية ، منصب المستشار يعادل منصب رئيس الوزراء في العديد من البلدان الأخرى. الألمان لديهم اثنين من الترجمات المعادلة لمنصب رئيس الوزراء، Premierminister وMinisterpräsident. بينما عادة ما تشير Premierminister لرؤساء حكومات البلدان الأجنبية على سبيل المثال : (المملكة المتحدة (، Ministerpräsident قد تشير أيضا إلى رؤساء حكومات معظم الولايات الألمانية ال 16.المستشار الحالي لجمهورية ألمانيا الاتحادية هي السيدة أنجيلا ميركل التي تقضي فترة ولايتها الرابعة في السلطة وتتأهب للمغادرة في شهر أيلول بعد الانتخابات البرلمانية .وهي أول مستشارة، وبالتالي فهي تعرف باللغة الألمانية باسم(Bundeskanzlerin )هذه الكلمة لم تستخدم رسميا أبدا قبل السيدة أنجيلا ميركل، وإنما هي تشكيل نحوي للدلالة على الاسم المؤنث مستشارة.
صحيح أن هناك قيادات ألمانية تاريخية أخرى، مثل كونراد هيرمان يوسف أديناور (Konrad Hermann Joseph Adenauer) من 5 كانون الثاني 1876م – 19 نيسان 1967م أول مستشار لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حتى عام 1963 م، الذي أخرج بلاده من بين أنقاض الحرب المدمرة ،وشارك بقوة في صياغة أول محاولة لتوحيد الاقتصاد في أوروبا مع فرنسا التي كانت قوية حينها .وهناك أيضاً المستشار هلموت شميت (Helmut Schmidt) (1974- 1982)م، والمستشار هيلموت كول) Helmut Kohl)(1982 -1998م) الذي تولى المستشارية 16 عاماً مثل المستشارة أنجيلا ميركل، وفي عهده سقط جدار برلين، وعمل على توحيد شطري ألمانيا.
لكن المستشارة أنجيلا ميركل التي تلقب بالمرأة الحديدية، وهي أول سيدة ألمانية تولت منصب المستشارية تركت أثراً لا يمحى في تاريخ ألمانيا السياسي .كما تركت بصمتها الخاصة في أجواء سياسية واقتصادية وعلمية وصحية عاصفة، مثل الأزمة المالية العالمية عام 2008م ،وأزمة اللاجئين التي تفجرت عام 2015م، وقد استوعبت جمهورية ألمانيا الاتحادية حينها أكثر من مليون لاجئ من سورية وبعض الدول الأخرى ،ثم جائحة كوفيد 19 (كورونا) التي اجتاحت العالم عام 2019م، إضافة إلى العلاقات المضطربة مع الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
الانتخابات الألمانية المقررة يوم السادس والعشرين من الشهر الحالي، سوف تأتي بمستشار جديد خلفاً للمستشارة أنجيلا ميركل، لكن يبدو أن الصورة مشوشة نوعاً ما ،والصراع على أشده بين المرشحين الثلاثة للمنصب من الأحزاب الرئيسية، إذ رشح حزب المستشارة أنجيلا ميركل) ) (CDUالاتحاد المسيحي الديمقراطي) أرمين لاشيت ،ورديفه الاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا ( Christlich-Soziale Union in Bayern )، CSU)، وهو حزب سياسي ألماني ذو إيديولوجيا ديمقراطية مسيحية محافظة ، أما الحزب الاشتراكي فرشح أولاف شولتس.كما رشح حزب الخضر السيدة أنالينا شارلوته ألما بيربوك (Annalena Charlotte Alma Baerbock) لرئاسة المستشارية . والسيدة بيربوك سياسية ألمانية تنتمي عن حزب الخضر الألماني التي تتولى رئاسة الحزب منذ 27 يناير (كانون الثاني) لعام 2018م .
لم تعط استطلاعات الرأي أفضلية مطلقة لأي من المرشحين الثلاثة، لكن يبدو أن أولاف شولتس يتقدم على أرمين لاشيت بنقطتين، في حين أن أنالينا شارلوته ألما بيربوك احتلت الموقع الثالث. وإذا ما واصل أولاف شولتس الصعود، فذلك يعني أن ألمانيا ستواجه زلزالاً سياسياً كبيراً ،ما يعني فتح باب التغييرات في المشهد السياسي الألماني على مصراعيه ،وبالتالي في شكل الحكومة وتكوينها ومهامها وتطلعاتها، وهو ما دفع قادة التحالف المسيحي إلى دق جرس الإنذار،وإطلاق حملة واسعة لدعم أرمين لاشيت الذي تعرض للانتقادات، جراء هفوات ارتكبها مؤخراً، ومن بينها نوبة ضحك تملكته خلال زيارته للمناطق المنكوبة بالفيضانات التي اجتاحت العديد من المدن والقرى الألمانية ،حيث سارع إلى الاعتذار قائلاً: (كان هذا سلوكاً غبياً وأحمق، ما كان يجب أن يحدث لي في تلك الثواني القليلة)، لكن ذلك لم يشفع له ما أدى إلى تقلص شعبيته بشكلٍ ملحوظ .
لقد قارنت صحيفة (تاغس شبيغل Der Tagesspiegel) في تعليق لها بين الأعصاب الفولاذية للمستشارة أنجيلا ميركل، وعدم قدرة أرمين لاشيت في السيطرة على مشاعره، وقالت: (إذا أراد أرمين لاشيت تولي منصب المستشار فعليه أن يكون قادراً على إدارة الأزمات، وهذا الأمر ما كان ليحصل للمستشارة أنجيلا ميركل).. هذا هو الفرق بين قيادي وآخر وقيادي يملك القوة والشكيمة والكاريزما.
مَن سيتولى المستشارية بعد المرأة الحديدة أنجيلا ميركل .. بقلم : عماد خالد رحمة

المصدرالكاتب للمركز الفلسطينى الأوروبى للإعلام