من ما قَبلَ الدولة إلى ما بَعد الدولة

15 ديسمبر 2021آخر تحديث :
من ما قَبلَ الدولة إلى ما بَعد الدولة

بقلم :عماد خالد رحمة

على الرغم من أنّ مصطلح الدولة يطلق مجازاً على العديد من التكوينات الاجتماعية وتشكيلاتها في عصرنا الراهن، والمتعلقة بتعقيدات الهياكل الاجتماعية والثقافية والسياسية المعاصرة. والتي تعود جذورها وأصولها إلى الكثير من العلاقات الشخصية والإقطاعية بين السلطان والرعية بسب الولاء المطلق أو شبه المطلق. فإنَّ الهياكل الدستورية للدولة الحديثة يمكن ربطها بالأصول الأولى التي تعود لقرونٍ عديدة مضت وانتهت، مع أنَّ جوهر الدولة الأساسي ما زال يتمسك بالحدود الإقليمية للدولة التي تتدفق منها الولاءات الشخصية ،والتي تربط الحاكم المتسيِّد لدى الناس. ومع ذلك وعلى الرغم من محاولة الربط بين الحاكم والمحكوم.إلّا أنّنا نجد من هذه التكوينات الفجّة والنيّئة ما لم ينضج أو يستكمل نصاب النمّو الكامل وفق المفهوم الدقيق والأساسي للدّولة،لأنه من الواضح تماماً أنَّ حقوق الدولة للسلطات التي تحتفظ بها الحكومات الإقليمية بموجب قوانين وتشريعات الاتحاد الفيدرالي وأحكام الدستور الاتحادي، حيث إنّ صلاحيات الدولة تبدو محددة بموجب أحكام محددة من الدستور، والذي يعمل على إضفاء الشرعية على السلطات المخولة للحكومات الوطنية السيادية كي تبقى قوية ومتماسكة، وهو الذي أيضاً يضمن لكل دولة حقوقاً وسيادةً متأصلتين تمنح الدولة سيادة على إقرار شؤونها القضائية بنفسها دون تدخّل آخرين .
في وطننا العربي حالة ترقب واندهاش مما يجري من مسار ما تم اعتباره دولة بعد أن تمت دولنة كيانية بعض الدول. خاصة أنَّ هناك العديد من الصراعات الدموية والمدمِّرة لمحاولة إعادتها إلى ما قبل الدولة .كما جرى في الصومال واعتبرت نموذجاً للتفتيت (الصوملة).كما اعتبر العراق أيضاً نموذجاً للتقسيم العرقي والطائفي ( العرقنة ) .ولأنه من المشاهَد والمقروء أما العالم أجمع. أنّ الوطن العربي الذي بات يطلق عليه العالم العربي تمهيداً لتفتيته وتمزيقه وتحويله إلى كيانات ودويلات .تعتبر شعوبه أكثر حاجة الى دراساتٍ معمقة حول ما بعد الدولة، بعد أن شهد تفكيك دولٍ بشكلٍ ميداني، ليس في عام 1916م بموجب اتفاقية سايكس ـ بيكو. بل حالة التشرذم الضياع والإنقسامات الأفقية والعمودية التي جرت في بلدانه مثل (السودان، العراق، ليبيا، سورية، اليمن) بحيث تعاد المجتمعات الى ما قبل القانون والتمدن والحضارة، خصوصا عندما اختلط حابل النظام بنابل الدولة ومآلاتها. وتصوَّر البعض انهما دائرتان متطابقتان تطابقاً تاماً ولهما مركز واحد .
إنّ الشروط السياسية لدَولَنة كيان ما وفقاً للقوانين والأعراف الدولية ،هي الاعتراف الكامل والكلّي بالسيادة وبشرعية الدولة وبدستورها، لكنَّ هذا الاعتراف لا يحتكم للتاريخ بما عليه من تبدلات وتغيرات. بقدر ما يحتكم للأمر الواقع وصراع القوى السياسية وتناحرها الذي لا ينتهي، لهذا لا يصبح كيان ما دولة لمجرّد هذا الاعتراف لأنه ناقص، ومن أطرف ما كُتب عن هذا الموضوع. ما كتبه الروائي الفرنسي ميلان كونديرا مؤلف كتاب الخلود عام 1988 م، وهو من أصول تشيكية ،ويعتبر من أشهر الروائيين اليساريين. كتب عن شفافية الفرد مقابل كثافة الدولة، وأعقبه باستنتاج هام ولافت ،هو أنّ الدولة كلّما صَغُرت وأحسّت بالضآلة والإنحسار، والإنكماش، وعدم القيمة الكبرى ،تضخّم نشيدها الوطني بشكلٍ فاقع، وكذلك تضاعف بشكلٍ متكلِّف جداً اهتمامها الشكلي بطقوس بروتوكولية رسمية، والقيام بإشادة بعض الأبنية الضخمة جداً هي بمثابة تعويض عن مفقودات تاريخية وثقافية وحضارية وحتى سلطوية. لذا يمكننا مشاهدة حجم وضخامة القصور الرئاسية وأبنية بعض مؤسسات الدولة الفخمة جداً ،لكنها فاقدة للفاعلية. مثل قصر الرئاسة، قصر الشعب، قصر العدل، قصر المؤتمرات، قصر الضيافة، إلخ .
في هذا المقام يمكننا أن نلحظ ثلاثة ملامح أولية واضحة وهامة لمجتمع اللا دولة أو ما قبلها، هي حالة تضخم النّمو العشوائي والغير منظّم الذي لا يتحوّل إلى تراكم . وتضخّم الحالة الفردية في عزلاتٍ متباعدة، بحيث تبدو علاقاتها المتشابكة والمتداخلة أشبه بصراع التماسيح حول الفريسة، أو كجولة رياضة مصارعة الثيران العنيفة والدموية .
لكن في غياب الوعي والحِكَم والحُكماء، والعقل الراجح النضر. يبقى المعادل الموضوعي لهذا الحكم هو ترسيخ أعراف لها قوة القانون ونفوذه وقوة تأثيره الكبيرة، والمثال البريطاني الماثل للذهن في هذا السياق والشاهد للعيان يبرهن على ذلك، فالقانون لا يمارس نفوذه بالتّدوين فقط بل يمارس على أرض الواقع .
والملمح الثاني هو غياب العقد الاجتماعي وبنية ومنهج المجتمع المدني الذي يحدِّد الحق والعدل والمساواة والواجب ،وتوزيع الثروة بشكلٍ عادل على المواطنين، لأنَّ البطريارك سواء كان يُمثِّل قبيلةً أو طائفةً أو عشيرةً أو أية جماعة ،هو المرجعية المعتمدة، وهنا يقول عالم الأنثروبولوجيا والإثنيات الفرنسي بيار كلاستر الذي عُرِف بإسهاماته في مجال الأنثروبولوجيا السياسية، وصاحب مفهوم (المجتمع ضد الدولة). ومؤلف كتاب :(مجتمع اللا دولة)، يقول: (هناك فارق جوهري وكبير بين كلام النفوذ، ونفوذ الكلام، فالكلام بما يحمل من معانٍ شتى يستمد قوته من جوانيته ومنطقه الداخلي واتّساقه في الحالات العادية العابرة، لكنّه يتراجع بشكلٍ متسارع في مجتمعات اللا دولة، فيكون نفوذه تابعاً لنفوذ مصدره ومقر سلطاته، وهذا يشرح ويفسِّر بوضوح تامين. أنّ الأحكام التي تطلق في مجتمعات اللادولة لا تقبل الاستئناف أبداً حتى لو كان مَن أطلقها يعاني من حالة اضطراب نفسي!
أما الملمح الثالث والأخير في هذا السياق ، فهو عدم اتضاح الحدود والصلاحيات بين الاختصاصات والمهن، بخاصة تلك الصلاحيات المنوط بها تحقيق الأمن وفرضه طوعاً وقسراً ، وفضّ الاشتباكات بين المتنازعين، لأنَّ مجتمع اللا دولة على ما يعانيه من وهنٍ وضعفٍ داخلي، سرعان ما يستدعي احتياطاته الرّعوية من الدهماء والمتعالمين والمتثاقفين والمتفيقهين والطائفيين والرويبضة .ويعمل على تهميّش أشخاصاً بعينهم أنيط بهم كبح جماح الأفراد والخارجين على السائد وإرادة الحاكم، عندما يتجاوزون حدودهم ويقفزون فوق القوانين والتشريعات والأعراف الاجتماعية والإخلاقية .

المصدرالكاتب للمركز الفلسطينى الأوروبى للإعلام
عاجل
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق