لماذا تقدّم الغرب، ولماذا نعاني من نهضة عربية معاقة؟

5 يناير 2022آخر تحديث :
لماذا تقدّم الغرب، ولماذا نعاني من نهضة عربية معاقة؟

بقلم : عماد خالد رحمة

لم يغب عن بالنا يوماً السؤال الذي أرّقنا نحن العرب منذ زمنٍ بعيد ،حول لماذا تقدَّم الغرب وتخلفنا عن الركب الحضاري ؟؟ .لماذا نتصرَّف نحن العرب بدونية أمام الآخر الغربي ونشعر أننا (قصّر) ونحتاج على الدوام إلى الرعاية والتوجيه وتلقي التعليمات من الآخر .ونحتاج إلى من يقودنا، لقد سعينا نحو الديمقراطية لنسير على خطاها، لكن ديمقراطيتنا كانت أبوية وعشائرية وقبلية مشوَّهة وموجّهة من الخارج، وسرعان ما تنقلب ثوراتنا ومناداتنا بالحرية والديمقراطية إلى أشخاص أو فئات محدّدة .وتتحوَّل إلى حكم استبدادي قمعي مغلَّف بواجهة ديمقراطية. يتزعم الدولة والشعب طغاة مستبدّون مدعومين من الغرب بقوة. ويرتكزون على مؤسسات أمنية واستخباراتية قمعية.
هي أسئلة تنكأ الجروح المتقيحة في جسد بلداننا وتخرج منها الصديد. لماذا تم اللعب على مفهوم ثورات الربيع العربي التي قامت بالأساس كما يزعم المدافعون عنها والمؤيدون لها كثوراتٍ ضد الطغاة وأنظمة استبدادية ترفض الديمقراطية التي تنادي بها ليل نهار عبر أبواقها، وتنتهك في الآن ذاته أدنى حقوق المواطنين، ومحاولة التمتع بحرية الرأي والتعبير والعيش بأمنٍ وأمان .مع أنّ من أهم شعاراتها هي الوحدة والحرية ،والعمل المشترك ضمن نظم اقتصادية مستوردة لا تتناسب طرداً مع مجتمعاتنا الزراعية .
لماذا آلت الفوضى العارمة ونهضت الحرب الأهلية بأكثر من وجه، كما تجلّت الحرب الطائفية بكل معانيها القبيحة لتساهم بمجموعها بتقويض مرتكزات الدولة الوطنية ،وإعادة انتاج الطغاة والانظمة الاستبدادية القمعية ؟. هل عقلنا العربي عصيٌّ على الديمقراطية حتى بأبسط معانيها ؟؟ هل الموروث الديني والتاريخي بدءاً من صيرورته وعبر سيرورته مركَّب بطريقةٍ معقّدةٍ تجعل دولنا في حالة رفضٍ دائم للديمقراطية؟ وآخر تلك التساؤلات المؤلمة هي هل تحتاج بنية عقلنا العربي وبخاصة العقل السياسي إلى تفكيك ومُراجعة نقدية تاريخية وعلمية ،وإعادة بناء الوطن تحت راية وطنية مستقلّة غير مستلبة؟
لقد أثار ما كتبه الشيخ عبد الله النديم في كتابه المعمّق حول حالة العرب وتخلفهم عن الركب الحضاري الغربي. في العام 1893 م. والذي جاء بعنوان : (بِمَ تقدم الأوربيون وتأخَرنا والخلق واحد؟!). لقد أثار هذا الكتاب الهام الكثير من أصحاب العقول العربية، ودفعهم نحو البحث عن الأسباب وإيجاد الحلول المنطقية المناسبة. كما كتب المفكر الإسلامي والكاتب والأديب العربي اللبناني الأمير شكيب أرسلان مؤلفاً بعنوان: (لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟) وذلك في بداية القرن العشرين في العام 1930م.وكان يقصد بما ورد في كتابه آنذاك الغرب المسيحي، ومن بعدهما توالت الكتابات حول سر تخلُّفنا نحن العرب والمُسلمين وتَقدُم غيرنا. وتفاوتت المُقاربات والمقارنات من دون يقين أو تحديد للأسباب أو حسم في الإجابة الصحيحة المرجوّة.
لقد تزامنت تساؤلات هؤلاء الكتَّاب والمثقفين والمفكرين الأوائل وكوكبة من المفكرين النهضويين العرب من أمثال جمال الدين الأفغاني، رفاعة الطهطاوي، علي مبارك، عبد الرحمن الكواكبي، الشيخ محمد رشيد رضا ، خير الدين التونسي، جرجي زيدان، أمين الريحاني، محمد كرد علي، جبران خليل جبران ،عباس محمود العقاد، ، طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، فاطمة اليوسف، يحيى حقي. لقد كانت تساؤلات هؤلاء المفكرين النهضويين قد تزامنت مع مرحلة الاستعمار الغربي الذي بدأ يجثم على صدور شعبنا العربي في معظم الأقطار، وبالتالي كانت الإجابات تُرجِع غالبا السبب إلى الاستعمار والمحتل وعدم تمسُّك المُسلمين بدينهم الحنيف، أو خروجهم عن النهج الإسلامي الصحيح، فإنّ طرْح تلك التساؤلات وغيرها بعد أكثر من مائة عام ،وفي زمن ما بعد الاستقلال لدول عربية وإسلامية ، يتطلب المراجعة وإعادة النظر فى أغلب التفسيرات والشروحات والاستراتيجيات والمناهج المتبعة ،أو الإجابات عن التساؤلات السابقة.غير متناسين ما قام به مفكرون مُعاصرون طرْح إشكال تخلُّفنا وتراجعنا إلى هذا الحد .وتقدُم غيرنا وتطورا. مُتسائلين بتواضعٍ وواقعية عن سر تخلُّف العرب والمُسلمين وتقدُم الغرب، بل عن سر تخلُّف العرب وتقدُم اليابان وجمهورية الصين الشعبية ،والكورييتين، وبعض هؤلاء المفكرين المعاصرين كالمفكر المغربي محمد عابد الجابري ،ومحمد أركون، وجورج طرابيشي ،وعبدالإله بلقزيز، وغسان سلامة ،وبرهان غليون ،وهشام شرابى، ونصر حامد أبو زيد… إلخ هؤلاء عزوا السبب لبنية العقل العربي، وثقافة البداوة، والموروث الثقافي العربي بشكلٍ عام، والشطط والانحراف فى فهْم أسس وجذور الإسلام وتفسيره، والاستبداد السياسي، وغياب الديمقراطية، والتبعية للغرب… إلخ. ومعظمهم وجد أن السبب الذي استقام به المسلمون سابقاً، قد أصبح مفقوداً بلا نزاع أو جدال، وإن كان بقي منه شيء، فهو كباقي الوشم في ظاهر اليد. وفي حال قُمنا بعمل مقارنة بين حال المسلمين والغرب اليوم، نجد أن المسلمين، فقَدوا الحماسة والمنهج والطريقة والاستراتيجية التي كانت عند آبائهم الأولين.
واليوم ترانا نتواضع مُكرَهين فى طموحاتنا وآمانينا وآمالنا المستقبلية ،ونتيه في إيجاد النماذج والقدوة التي نريد الاحتذاء بها في وطننا العربي، ولم نَعُد نُقارن حال وضعنا نحن العرب بحال أوروبا والأميركيتَين أو اليابان والكوريتين وجمهورية الصين الشعبية ،بل سنُقارن ونضرب الأمثلة المتتابعة بنماذج من مجتمعات كان حالها كحالنا في السابق، بل أقل شأنا بكثير فى مرحلة ما قبل الاستعمار أو بعده مباشرة كالهند ومعظم دول القارة الإفريقية .وهنا لا نستطيع التقليل من أهمية وشأن ما أنجزناه نحن العرب في بعض الدول العربية والإسلامية، آخذين بعَين الاعتبار الجغرافيا السياسية للمنطقة، وترانا هنا نعود للتساؤل: لماذا نجحت العديد من شعوب العالَم الثالث التي كانت مثلها مثل الشعوب العربية تخضع للاستعمار والاستغلال الغربى كالدول الإفريقية والهند وغيرها، في الخروج من دائرة الجهل والتخلف ،ودخول عالَم التطور والحداثة والعلم، وتحقيق شروط الديمقراطية، بينما الدول العربية، وباستثناء قلّة قليلة منها، ما زالت تراوح مكانها، يرعاها الاستبداد ويتزعمها الطغاة والرويبضة ،بل وتتراجع مكانتها يومياً على سلم التطور الحضاري والإنساني على الرغم من مناداة مثقفوا السلطة وقياداتها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ووو إلخ.
إنَّ سؤال لماذا تقدم الغرب وتخلّف العرب، بقي هاجساً للمفكرين والمثقفين العرب على مدى سنواتٍ طويلة، منذ طرحه الشيخ عبدالله النديم. وقيل الكثير، عن أسباب هذا التخلف، وكما بينا سابقاً أنّ كثيرون أدلوا بدلوهم في هذا السياق، وشاركناهم في هذا السجال على مدى سنوات. ولعل سبب العجز في الأجوبة المقدمة، عن أسباب وظروف التخلف، هو الخلط الكبير بين التقدم العلمي والمشروع النهضوي العربي، وكلاهما موضوعان مختلفان.
إن قوانين الحركة الإنسانية، والرصد التاريخي لمسيرة الشعوب، لمشاريع التقدم الكبرى، والتطور العلمي والتقني، تستدعي إعادة طرح السؤال الذي أرّق الكثيرين باستمرار، إلى حين خروج معظم العرب إن لم يكن جلَّهم، من واقعهم الراهن الصعب والمعقّد، والتحاقهم بركب التقدم العلمي والتقني والحضاري. وما يفتح بوابات الأمل هو أنَّ التطور العلمي الراهن، لم يعد حكراً، على الغرب، فقد التحقت به أمم كانت حتى وقت قريب في عداد البلدان النامية، كالهند والصين والكوريتين والبرازيل، ومن قبلهما اليابان والنمور الآسيوية. وذلك ما يعطي أهمية كبيرة جداً لإعادة طرح سؤال الشيخ عبد الله النديم : بِمَ تقدم الأوربيون وتأخَرنا والخلق واحد؟ لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن، في صيغة سؤال جديد: لماذا تقدم الغرب ونهض الشرق، ولم يلتحق العرب بهذه السيرورة بعد أن كانوا مركز الصيرورة ؟!.
الغرب الأوروبي مرَّ بعصر الأنوار، المعروف أيضًا باسم (عصر المنطق) وهو حركة فكرية وفلسفية هيمنت على عالم الأفكار في القارة الأوروبية خلال القرن الثامن عشر. الذي بشّر بمرحلة تاريخية مختلفة عما كانت عليه أوروبا، وما عاشته في التاريخ الأوروبي الطويل، والتي شملت القضايا الاقتصاية والاجتماعية والسياسية. وكان أرباب العمل، يشكّلون قوةً كبيرةً فتيةً تتنافس مع القوى الإقطاعية، كانت كل المؤشرات تؤشر باقتراب أفوله. بمعنى آخر، أسعف التطور التاريخي الطويل، حركة التحوّل الدراماتيكية، التي عصفت بالقارة الأوروبية عبر سنواتٍ طويلةٍ شهدت عصر الثورات بأبعادها الثلاثة: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وسرّع في انتشار أفكارها ومناهجها ومفاهيمها، ونقل تلك المجتمعات بكل مكوناتها، من حال هيمنة الكنيسة والعلاقات البطركية، إلى الحالة التعاقدية بين أفراد هذا المجتمع.
نهضة الشرق العلمية والتقنية، التي أخذت مكانها الكبير في العقود الأخيرة، من القرن العشرين الذي مضى، وتواصلت في خط بياني متصاعد، كانت معجزة بكل المقاييس والمعايير المتبعة، كون معظمها افتقرت للتراكم الفكري والعلمي والمعرفي، والبعض منها جاء خارج مشروع الدولة التعاقدية، كما هو الحال مع جمهورية الصين الشعبية. والأهم من كل ذلك، أن التجارب الهائلة الجديدة، لم تكن تتنافس مع قوى في طريقها للأفول والذوبان، بل مع قوى متينة عتيّة، بتجارب ثابتة وقوية نسبية، مدعومة بقوة بتراكم متين وبترابط فريد، تواصل أكثر من أربعة قرون متواصلة. ولم تكن تتنافس مع قوى في طريقها للزوال وهي آفلة لا جدال فيها .
في هذا السياق يمكننا أن نستثني جمهورية روسيا الاتحادية وتحديداً في فترة رئاسة فلاديمير بوتين التي استعادت حضورها بقوة منذ وقت قريب. فهذه التجربة مرّت بعقودٍ طويلةٍ، وانتكست بسقوط الاتحاد السوفييتي السابق، لكن بقائها كان قصيراً، وقد عادت مجدداً إلى المسرح الدولي، كقوة نووية وتقنية متطورة جداً، بخاصة في مجال الهايتك والصناعات الفضائية، والصناعات العسكرية المتفوقة عالمياً، مستندة على تراث ضخم ،وتراكم تاريخي طويل جداً، وقدرات علمية فائقة لا يستهان بها على الإطلاق.
من جهتها قدمت اليابان نموذجاً متفرّدا بين دول الشرق الصاعدة بقوة .. فهذه الدولة كانت قوة امبريالية عالمية قبل الحرب العالمية الثانية،وكانت قد احتلت عدداً من البلدان أكبر من حجم المركز بعدّة أضعاف. بل إن جمهورية الصين الشعبية ذاتها، كانت في فترة ما جزءاً من بعض ممتلكاتها. وكانت اليابان قد غزت كوريا ومنشوريا. ودخلت في حربها الطاحنة ضد روسيا عام 1904م وهزمت فيها الجيش الروسي وطردته من كوريا وميناء بورت آرثر. وفي عام 1941 دخلت اليابان حرباً بجيوشها الجرارة ضد الحلفاء بهجوم مفاجئ على القاعدة الأمريكية في بيرل هارير. وما لبثت في زمن قصير أن اجتاحت أندونيسيا والفيليبين والهند الصينة الفرنسية ، وملايو ، وبورما، وسنغافورة .وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية، كانت اليابان واحدة من ثلاثة أقطاب شكّلت دول المحور، مع ألمانيا وإيطاليا.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقّعت اليابان وثيقة استسلام، جعلت منها تلك الوثيقة تابعاً للغرب الأوروبي. لكنها اعتبرت الهزيمة فرصةً للنهوض مجدداً كالعنقاء، من خلال مشروع مارشال أولاً الذي تبنته الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة إعمار ما خلفته الحرب، وأيضاً من حيث موقعها الاستراتيجي الهام، في القارة الآسيوية، حيث بدأت كمحطة تصنيع بكثافة للغرب الأوروبي وبتقنيات عالية، نتيجة قربها من الأسواق العالمية، لتنتقل لاحقاً إلى قوة اقتصادية عالمية لها دور لا يستهان به ، تضاهي الاقتصادات العالمية الأخرى بجدارة .
وطننا العربي لم يمر بتجارب مماثلة كما جرى في اليابان، وتم وأد عصر التنوير، وعصر النهضة التي باتت معاقة وهو لمّا يزل جاثيا على ركبتيه يحبو، ويحاول تلمس مواضع أقدامه على الأرض التي تميد تحته. والعرب لم يفتقروا نهائياً إلى التراكم العلمي والمعرفي والحضاري فقط، بل عانوا انقطاعاً ثقافياً كبيراً، ساد لفترةٍ طويلةٍ جداً ، استمرت أكثر من ثمانية قرون دون انقطاع، منذ احتل المغول بغداد عاصمة العباسيين، في سنة 1258 م ودمروها بقيادة هولاكو بن تولاي ،وأبادوا سكانها وقبضوا على الخليفه العباسي المستعصم بالله ورجاله، وركلوه بالرجلين حتى الموت..وأحرقوا مدارسها وأغرقوا مكتباتها الضخمة. وتواصل الانقطاع إبّان الفترة العثمانية لمدة أربعمائة سنة، ليتبع ذلك احتلال غربي أوروبي فرنسي وبريطاني وإيطالي، لبلاد الشام،و مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وعملوا على تقسيم الوطن العربي، بأشكال مختلفة، بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى باتفاقية سايكس بيكو عام 1916 م.
لقد أدت مجمل تلك الأسباب إلى تعطل النمو الاقتصادي، وأعاقت التحاق أمتنا بالتطور العلمي والتقني، وخلقت تشكيلات اجتماعية متنوعة ومختلفة ومتناقضة متناحرة ،اتسمت بالهشاشة وضعف قدرتها على مقاومة التحديات الحضارية العالمية .
هذه المقارنة وتلك المقاربة تدفعنا للإستفادة منها في إعادة مشروع النهضة العربية، ومشروع التقدم العربيين، واعتبارها مرشداً ودليلاً للخروج من الأزمة العميقة الراهنة. لقد أكدت تجارب تلك الدول مجتمعة،على أنَّ العلم والمعرفة والثقافة هما الركن الأساس والهام، في بناء أي مشروع نهضوي عربي دون نهضة معاقة، فهو السبيل لتنمية القدرات الذاتية المحرّكة، والولوج في عصر التصنيع وبناء القدرات العلمية والتكنولوجية، بقوة ووعي وعزيمة لا تلين. نحن بحاجة ماسة وضرورية إلى أن نجعل من الاقتصاد بوصلة للسياسة، وليس العكس. وأن تكون السياسة بكل استطالاتها واستحقاقاتها في خدمة مشروع التقدم والنهوض والوحدة العربية الذي تنشده جماهير شعبنا العربي من المحيط إلى الخليج .

المصدرالكاتب للمركز الفلسطينى الأوروبى للإعلام
عاجل
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق