بعد ستة عشر عاماً من العمل الدؤوب ودعت المرأة الحديدية أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السلطة، تنفيذاً لما وعدت به بالاستقالة نهائياً ، وعدم ترشيح نفسها مرة أخرى للمستشارية أو للبرلمان ( البوندستاغ )، على الرغم من عدم وجود منافسين حقيقيين لها، فقد بينت استطلاعات الرأي التي جرت مؤخراً في عموم جمهورية ألمانيا الاتحادية أنَّ قسماً كبيراً من الشعب الألماني يعتقدون بأنّ أفضل أيام ألمانيا الاقتصادية انتهت مع رحيل المستشارة ميركل عن السلطة ، فقد شهدت ألمانيا استقراراً سياسياً واقتصادياً هو الأفضل والأقوى في تاريخها بعد الحرب العالمية الثانية منذ العام 1945 م ، كما تمكّنت جمهورية ألمانيا الاتحادية من تبوؤ القيادة السياسية لدول الاتحاد الأوروبي ، بعد أن أثبتت المستشارة أنجيلا ميركل كفاءة عالية وقدرة فائقة في التعامل مع الأزمات على حدتها ، ابتداءً من أزمة منطقة اليورو، التي أعقبت الأزمة المالية العالمية، ووقوف ألمانيا إلى جانب عدد من الجيران الأوروبيين، ودعمهم لتجاوز أزماتهم المالية، خصوصاً اليونان في أزمة الدين الحكومي ،والانحدار الاقتصادي الإيرلندي والبرتغال وإسبانيا ، وانتهاء بجائحة كوفيد 19 (كورونا) ، وتأثيرها الخطير على سلاسل الإمداد الأوروبية.
الجدير بالذكر أنه لم يسبق لامرأة ألمانية أن شغلت منصب المستشارة، في بلد كان استقراراه ومكانته وقوته، وما زال، بوصلة لدول الاتحاد الأوروبي ، وعلى الرغم من حساسية هذا المنصب وأهميته الكبيرة، فإن أنجيلا ميركل كانت محط ثقة مشتركة بين الأحزاب والقوى السياسية الألمانية بكل ألوانها واتجاهاتها ، على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية الحادة بين تلك الأحزاب وتلك القوى والكتل ، وهو ما يفسّر إلى حد كبير تراجع حزبها الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU) في الانتخابات البرلمانية ( البوندستاغ ) التي جرت منذ أيام، فالزعيمة الألمانية ميركل تركت فراغاً كبيراً في الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU)، إذ يصعب، أقله حالياً، أن توجد شخصية كاريزمية قوية في قيادة الحزب خلفاً لها، فقد كان واضحاً أن السيد أرمين لاشيت رئيس حزب (CDU) بعد السيدة ميركل ، مرشح الحزب للانتخابات، لم يكن مقنعاً للناخبين كثيراً ، ولم يقدم أداء لافتاً خلال جولاته السياسية الداخلية العديدة فقد كان يضحك على الرفم من المآسي التي يعاني منها الشعب الألماني جراء الفياضانات الجارفة .
جمهورية ألمانيا الاتحادية بعد مغادرة ميركل ليست محط سؤال سياسي واستراتيجي مشروع وحسب، بل أيضاً مصير الاتحاد الأوروبي ، فقد أوجدت أفقاً ونهجاً سياسياً خاصاً ، أصبح يطلق عليه (الميركلية)، وهذا النهج وهذا الأفق بالتحديد هو ما ستفتقده دول وحكومات الاتحاد الأوروبي، في وقت هو من أصعب الأوقات التي يمر فيها النظام الدولي، حيث تظهر الكثير من المتغيّرات الكبيرة في سياسات الدول الفاعلة في السياسة، وفي سوق العمل الدولي، فالمنافسة الجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية تشهد فصولاً شرسة من المواجهة متعددة المستويات والمجالات، تدفع الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة حساباتها العسكرية والأمنية والاقتصادية ، الأمر الذي زاد من منسوب القلق بل المخاوف لدى الحلفاء الأوربيين جميعهم دون استثناء ، الذين تعوّدوا أن يكون أمنهم القومي وأمن القارة الأوروبية بيد الولايات المتحدة الأمريكية ، من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما اعتادوا أن يكونوا شركاء في خطط الولايات المتحدة التجارية والتكنولوجية والعسكرية والأمنية.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل واجهت منذ عام 2014 م تحديات كبيرة لا حصر لها ، حيث تدخّلت القوات الروسية عسكرياً من أجل تحرير شبه جظيرة القرم من أوكرانيا الحليف لألمانيا ، ومن ثم تدفق اللاجئين إلى أوروبا من معظم دول الشرق الأوسط وإفريقيا ، وبشكل خاص إلى ألمانيا التي استقبلت في عام واحد نحو مليون لاجئ ، ومجيء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للحكم في الولايات المتحدة الأمريكية ، وما جرى من تعقيدات في العلاقة الألمانية مع روسيا، نتيجة الاعتراض الأمريكي على خط الغاز الشمالي (نورد ستريم 2)، لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا، وفي مختلف هذه المواقف تعاملت المستشارة أنجيلا ميركل ببراغماتية عالية، في محاولة لتجاوز حالة الصدام المباشر مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية ، معوّلة على المصالح المشتركة أكثر من الخلافات، في إدراك لطبيعة التناقضات والخلافات الحادة التي تمر بها القوى الفاعلة في النظام الدولي، بل ومحاولة الاستفادة من تلك التناقضات نفسها لصالح ألمانيا والشعب الألماني.
لقد شهدت العديد من دول أوروبا ظهور وتطور موجة الشعبوية السياسية . فعلى الرغم من وصول عدد من تلك الأحزاب القومية الشعبوية إلى السلطة ، كما في إيطاليا وهنغارية (المجر)، فإن المستشارة أنجيلا ميركل آثرت الإبقاء على أكبر قدر ممكن من السياسات المنفتحة في ملف اللجوء، ما منح سياساتها بعداً إنسانياً خاصّاً، وأكسبها شعبية كبيرة داخل ألمانيا ، وداخل دول الاتحاد الأوروبي وفي العالم، حتى أنها باتت تعرف باسم (ماما ميركل)، من دون أن تغفل في مناسبات عديدة التأكيد على وجود مصالح ألمانية وأوروبية في استقبال اللاجئين واحتضانهم ، في ظل التغيّرات التي طرأت على التركيبة الديموغرافية الأوروبية.
لقد أصرّت المستشارة أنجيلا ميركل خلال العام الماضي على توزيع مناسب وعادل لحزم التحفيز المقدمة للدول الأوروبية التي تضررت اقتصاداتها جراء جائحة كوفيد 19 (كورونا)، وتمكّنت من تجاوز مواقف عدد من الحكومات الأوروبية التي أرادت وضع شروط قاسية جداً على الدول التي ستحصل على حزم نقدية من ألمانيا، وأوضحت المستشارة ميركل أن الاقتصاد الأوروبي هو مسألة متكاملة،ولا يمكن أن تتجزأ ، كما أن قوة ومتانة الاتحاد الأوروبي السياسية تنبع في أحد صورها من القدرة على التضامن البيني بين أعضاء دول الاتحاد، والعمل المشترك لتجاوز الأزمات المتلاحقة .
كيف سيكون حال الاتحاد الأوروبي بعد ميركيل ؟ بقلم : عماد خالد رحمة

المصدرالكاتب للمركز الفلسطينى الأوروبى للإعلام