قراءة أمبريقية في محاولة اغتيال العقل العربي ،، بقلم : عماد خالد رحمة

2 سبتمبر 2021آخر تحديث :
قراءة أمبريقية في محاولة اغتيال العقل العربي ،، بقلم : عماد خالد رحمة

إن من يقرأ التاريخ العربي ويحاول استشراف المستقبل من خلال ماضيه وحاضره، يدرك تمام الإدراك أننا بحاجة ماسة إلى إعادة الاعتبار إلى العقل العربي الذي تم إغراقه في وحول القرون الوسطى من التفكير، فعندما نطل على القعر المخيف من التفتت والتخلع والبربرية التي انحدر إليه الواقع العربي ومعه منظومة تفكير ممزوجة باللا عقلانية، – وهو تعبيرٌ فج ومندفع إلى الأقصى عن حالة عربية عامة تعيش هذه الظواهر على نحو كامنٍ وضمني-، ندرك مدى صوابية قول لينين الموجَّهة إلى مريديه وأتباعه، من أن على الماركسيين في البلدان المتأخرة أن يناضلوا ضد بقايا القرون الوسطى الماثلة دائماً في تركيبة المجتمع. وأنا أقول إن هذه التوصية تنطبق في واقع الحال على مهمة جميع التقدميين والديمقراطيين والليبراليين القائلين بالحداثة والاندماج القومي، داخل كل قطر عربي بدايةً، ثم على المستوى العربي بشكلٍ عام؛ فالتعرُّف إلى الواقع العربي، فعلٌ مشروط ٌبثلاثةِ ضوابط كفيلةُ بجعلِ هذا التعرُّف يتيحُ معرفةً حقيقيةً بالواقع، لا قراءة مزودة ومزورة تدعي أنها ترسم الواقع بأمانة، فيما هي تسقط تصورات صاحبها وفرضياته المسبقة والجاهزة؛ حيث نرى البعض ممن اعتبروا أنفسهم قادرين على قراءة الواقع، يحاولون أن يختطوا لأنفسهم طريقاً وسطاً منيعاً بين دعاة الأصالة، ودعاة المعاصرة، مبينين خطوط كلٍ منهما وخطواته، وحدود كلٍ منهما في الوقت نفسه، فالأصالة من دون حداثة تظل شيئاً فارغاً، والحداثة من دون أصالة تظل عمياء؛ الأولى أصالة اجترارية، وانتحالية، وانتحائية ومراوحة في المكان، والثانية تبعية مادية واستلاب روحي وثقافي، وشقاق اجتماعي وتكوين مجتمع مرتبط بالخارج معادٍ للمجتمع المحلي؛ فهي تمثل اغتراباً تاريخياً حقيقياً وتراجعاً وتحللاً للذات العربية، فالإخفاق في تملك الحضارة وفي المشاركة الفعلية في مسارها هو الدافع إلى رفض ثقافتها وإنكار قيمتها؛ بل ، الإخفاق المتكرر والمستمر في استيعاب الحضارة، هو الحافز الأساس لاستمرار الحديث عن الهوية والمعاصرة بينهما، إذ ليس للهوية من حلٍّ سوى النجاح في التوصل إلى نوع المشاركة الإيجابية في الحضارة، لأنَّ ذاك هو مصدر الشعور بالذاتية التاريخية الفاعلة. وإذا كانت الثقافة العربية تعيش محنة عسيرة، فإنها محنة الذات العربية نفسها، من حيث هي ممزقة بين تمسكها بذاتها وانشدادها إلى نرجسيتها، وبين اعترافها بالآخر أو رفضها له، محنةً تتراوح بين قبول الذات ورفضها، بين قبول الآخر ورفضه، بين ضرورة السلفية وحتمية التبعية، إنه وضع شقي فعلاً ومأساوي يتأرجح بين خيارين. لذلك ينصَبُّ جهد هؤلاء الذين اختطوا لأنفسهم طريقاً وسطاً منيعاً بين دعاة الأصالة، ودعاة المعاصرة، في اتجاه طريق رابع بين ما يسمونه الحداثة المضَيَّعة والمضَيِّعة، وبين السلفية المُفقِرة، والتوفيقية السحرية، طريقٌ نقدي جذري ومزدوج تتبين فيه محاسن كل مسعى ومثاليتة، خارج التعصب وخارج واحدية الموقف، وهذا الطريق الرابع هو طريق الإبداع واكتشاف الذات من دون ذوبان في الغرب أو تقليد له، وتقوقع في الماضي، ودون توفيقية ساذجة، وهذا الطريق هو (الاستجابة الوحيدة ) الممكنة لقانون التاريخ، إما المساهمة في الصراع الحضاري ( صموئيل هنتغتون)، أو الانسحاب من التاريخ أو موته ( فرانسيس فوكوياما) والخروج من حلبة الحضارة، أو بالذوبان أو التقوقع.
من هنا رأى العديد من المفكرين أنه ليس أمام العرب إلا الانخراط في نهضة تكون بمثابة مشروع لتحقيق الذات العربية بما هي هوية حضارية، نهضة تعني الإبداع، والإبداع هو مجال تحقيق الذات العربية ومشروعها. والتمسك بالهوية والاندفاع وراء الحضارة حركتان أصيلتان متكاملتان، فالسعي وراء الحضارة يصون الجماعة من الانحلال والاندماج في الآخر، ومن الاندثار كجماعة مستقلة ومتميزة.
في الماضي القريب اعتملت في الوطن العربي في نهاية القرن ما قبل الماضي – أي في القرن التاسع عشر – وخاصة في مصر، مخاضات نهضة الوعي أو الوعي النهضوي ، لكن الاحتلال الأوروبي داس هذه البذور النهضوية، فقضى بذلك على آمال النهضة العربية، وفرض على العرب نظام التجزئة الإقليمية والحماية والوصاية الأجنبية. وفي أواسط القرن الماضي تبلورت من جديد عوامل المقاومة العربية شيئاً فشيئاً، وتجسَّدت في قيام أنظمة قومية واشتراكية، وعاش العرب عقدين من الزمن آمال التحرر وحلم يقظة بالوحدة وتحقيق النهضة الاقتصادية والتقنية والثقافية، وإمكانية الخروج من إطار التبعية والاستعباد. إلا أنَّ احتلال فلسطين، والهجوم الثلاثي على مصر، والانفصال بعد الوحدة بين سورية ومصر، وحرب اليمن، وهزيمة حزيران 1967، كانت المعالم البارزة لبداية تراجع هذا المد التحرري الذي هبَّت رياحه على العالم العربي وما تزال تستفحل الآن لأنها استبطان للواجب الشرير.
أما الفكر العربي العروبي فكل من يتبناه يدافع عن العرب وكل مقومات الأمة العربية ومكوناتها التاريخية والسياسية والثقافية والجغرافية، لأنه يبرز بالأساس شخصية الإنسان العربي، ولأنَّ له مقومات خاصة به تجعله ينفرد عن باقي الشخصيات في العالم ككل، فإذا ما توغلنا بعيداً في الماضي فسنجد أنَّ العرب كانوا يحسّون إحساساً فريداً، ويعتزون اعتزازاً خاصاً بلغتهم، وقد كان لهم قبل الإسلام إحساس عرقي، أي نوع من الشعور بأنَّ هناك وراء منازعات القبائل والعائلات وحدة تضم جميع الناطقين بالضاد، وقد كان للعرب نصيب خاص من تاريخ الإسلام، فالقرآن الكريم كان عربياً، ودعوته الأولى كانت موجّهة إلى العرب، بواسطة هؤلاء انتشر الإسلام ، كما أصبحت اللغة العربية لغة العبادة، وعندما انتقلت السلطة إلى الأتراك، وغدت اللغة العربية بمركزها الممتاز كلغة للثقافة الدينية، لم يعد هناك مجال للتمدد أكثر باتجاه كيان حضاري إسلامي غير عربي، وبهذه الطريقة استطاع العرب أن يستمروا في القيام بدورهم في شؤون المجتمع العامة، ولما تفككت الامبراطورية العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، استمر الشعور الإقليمي، وظهرت المقاومة في ولايات الامبراطورية بواسطة زعماء من الأسر الدينية في المدن الكبرى، تلك الأسر استطاعت بفضل النظام الديني أن تحافظ على مركزها الاجتماعي والديني، وكانت هذه العائلات تدخل علوم اللغة العربية وتتوارثها من جيل إلى جيل كوسيلة لعلوم الدين. بهذا الأساس هل يمكن القول إنَّ الفكر العروبي له جذور قديمة ترجع إلى الإسلام ؟؟؟؟، وهل أولئك المتزعمون للحركة الدينية – التي كانت تستعمل اللغة العربية – يعدّون ذوي فكر عروبي ؟؟؟
إنَّ حوادث التاريخ متصلة بعضها بالبعض الآخر، والثورات والانقلابات التي تبدو في ظاهرها انفلاتاً من مجرى الحوادث لها أصول بعيدة من تربة الأمة، ولا يمكن أن نتصوَّرها مبتورة الأصول، هذا هو الفهم الصحيح للتاريخ؛ فعروبة العقل إذن هي العروبة الواعية ذاتها وهي المتمثلة أساساً في الأحداث التاريخية الشاملة لحياة الأمة السياسية والأدبية والأخلاقية والاجتماعية والعقلية. إلا أنَّ العروبة لا تكتمل فقط بهذه العناصر، ولا بدَّ لها من عنصر آخر هام ليكتمل مفهومها، وهذا العنصر يتمثَّل في الشعور أو ما يمكن أن نسميه عروبة القلب. فعروبيّ القلب الذي يؤمن إيماناً راسخاً بحق أمته في الحياة الحرة من الأغلال، وهذا الإيمان لا يمكن أن يكون أصيلاً في نفسه إلا بعد أن يلم بالعناصر الخالدة من التراث القديم، وهو بهذا يؤمن إيماناً بوحدة اللغة والفكر، ويعمل على توسيعها حتى تصبح أساساً متيناً لأية علاقة مادية يمكن أن يبنى عليها المستقبل. إذن فالعروبة تبنى على أسس معينة متفاعلة فيما بينها، إذا ما اختلَّ عنصر من العناصر اختلَّ البناء كلّه، وعلى هذا الأساس فإن عروبة اللسان أو اللغة والعقل أو الوعي التاريخي، وعروبة القلب أو الشعور.. اصطلاحات حديثة لم تظهر بوضوح إلا من خلال القرن التاسع عشر، وبذلك هل يمكن القول أنَّ العروبة مرادفة للقومية والوطنية. وماذا يُقال للذين يفرِّطون بعروبتهم وبوطنيتهم وبقوميتهم، ويبدِّدون ثروات بلادهم ويرتهنون للقوى الاستعمارية والصهيونية المهيمنة في العالم، لا بل يعملون وفق أجندات استعمارية بوضح النهار لضرب العديد من الدول العربية والإسلامية في المنطقة ؟؟؟؟
إذا ما حاولنا الإجابة على ما أحدث الخلل البنيوي، فإنه يترتب علينا القيام بمقارنة دقيقة بين بعض المصطلحات حتى تتبيَّن لنا الاختلافات، فالقومية عموماً تقوم على أسس تتمثَّل في المصلحة المشتركة الاقتصادية والاجتماعية والدولية، مصلحة كل شعوب الأمة، ومصلحة كل فرد من تلك الشعوب، ويدعم هذه المصالح المشتركة مقومات أخرى أساسية أهمها الشعور المتدفق والتدافع الشعبي والعقيدة المشتركة في كل الأقطار التي تتكوَّن منها الأمة لقيام الوحدة العربية الشاملة. هل هذا صحيح بالنسبة إلى القومية العربية ؟؟؟؟ لا يمكن أن نأخذ بهذا التعريف أولاً، لأنَّ المقومات كلّها أو بعضها مقومات دخيلة على العرب من الغرب. ثم هل للعقيدة المشتركة دور في القومية العربية ؟؟؟ لا طبعاً لأنَّ الدين الإسلامي لا يشكِّلُ ذلك، وهناك الكثير من المفكرين والمثقفين والمناضلين والأبطال المسيحيين العرب الذين دافعوا عن القومية العربية؛ بل أبدعوا في كتابة النظريات القومية(قسطنطين زريق، شبلي شميِّل، جورج حبش، إلخ)، فهل يمكن أن نخرجهم من نطاقها. مطلقاً. نستنتج من هذا كلّه أنَّ العروبة مرحلة مهمة وفاصلة بين ما قبل ظهور القومية العربية وما بعدها، فهي بذلك تعدّ من أهم الأسس التي انبنت عليها القومية العربية وليست مرادفة لها، فهي ضرورية لبروزها ومن دونها لا يمكن أن نتكلم عن قومية عربية، ولا يمكن كذلك أن نجعلها مرادفة للوطنية، أولاً لأنَّ الوطنية لها تفاسير مختلفة؛ فهناك الوطن الخاص وهو الأرض التي تتحدد بحدود البلاد العربية، وهناك الوطن العام وهو الأرض التي يسكنها العرب جميعاً، ثم هناك الوطن الفعلي وهو الأرض التي تعترف بها الدول والأرض التي تنشدها نفوس المواطنين العرب.
إنَّ إدراك واقع مجتمع المنطقة العربية ( الشرق الأوسط) – كي يشمل الكيان الصهيوني – ليس مجرد مران بسيط، فهو يتطلب وعياً حاداً بوجود مرايا مشوِّهة لا يرى من خلالها الشرق الغرب، والغرب الشرق، إلا بعين العداء والتشنّج. ولابدَّ، فضلاً عن ذلك، من إعطاء معنى لذلك الواقع، ومن إدراجه في سياق تاريخ هو قيد الصنع على مرأى من أبصارنا، وقراءته مع ذلك ليست باليسيرة، فما هو ذلك التاريخ الحافل باستمرار الانقلابات العسكرية وبالاستفتاءات التأديبية، وبثورات القصور والسرايات والمشيخات والممالك، وبالهزائم العسكرية المتوالية ؟؟؟ وما هو التاريخ الذي لا تقرأ صفحاته ولا تعلِّل أحداثه في غالب الأحيان إلا بالاعتماد على مفهوم أحادي كمفهوم التخلّف أو الامبريالية، أو من خلال الإحالة السحرية إلى مؤامرات الدول العظمى وأجهزة مخابراتها، واستخدام أدوات رخيصة في المنطقة مشيخات وممالك ودول عربية وإسلامية لتحقيق حالة تمزّق المجتمع العربي إلى كانتونات طائفية ومذهبية وعرقية، وهذا يتم طرحه بين نداء الثورة والتغيير الجذري العلماني والتحديثي من جهة، وبين التغيير البنيوي من خلال الإسلام السياسي من جهة أخرى، وكل ذلك يجري تحت عباءة العروبة التي تدّعي الرغبة في تحقيق الاستقرار والانضباط ، والمحافظة على التقاليد والتبرجز، وأنَّ هذا المجتمع العربي عينه، هو المتعطش إلى الوحدة والأخوة والعدالة الاجتماعية والتنمية، بينما في الحقيقة تهدف خططهم إلى الوصول إلى أقصى حالات التشرذم والانقسام العقائدي والسياسي على أيدي قوى تفتيتية، في ظل هيمنة ثروة نفطية يزيدها قدرة على التحطيم سوء توزيعها الإقليمي والاجتماعي. حيث يبدو أنَّ (الشرق الأوسط) بوصفه منطقة كانت ومازالت ذات موقع استراتيجي، وبوصفه مكاناً لتلاقي الديانات والحضارات والامبراطوريات وتقاطعها، لا يمكن فهم تحولاتها بمنطق يسلك سبيل السهولة. ذلك أنَّ الكيان الصهيوني (ذلك الغائب الكلي الحضور في تطور الشرق الأدنى العربي) له مخطط محدد يتمثّل في صنع منطقة عربية تخدم وجوده واستمراره بشكلٍ نهائي (دولة يهودية) ومن خلاله تخدم المصالح الغربية.
إنَّ إدراك ما جرى وما يجري في (الشرق الأوسط)، يشترط الابتعاد عن العقلانية الدائمة الحضور في معظم محاولات التعاطي مع أوضاع هذه المنطقة؛ حيث تبيِن الرؤية المحايثة التي لا يغلب عليها بالنسبة إلى الأطراف جميعاً التناقض والهوى والأيديولوجيا، يمكنها أن تصير ولو بعد فترة طويلة، هي الحقيقة الواقعة لشرق أدنى عربي متصالح مع ذاته ومع الغرب، ولغرب متصالح مع ذاته، وبالتالي مع ذلك الجزء من الشرق الذي هو بالفعل أدنى إليه، ووفاق من هذا القبيل هو وحده الذي سيتيح لليهودية – وليس للصهيونية – أن تجد مكانها الصحيح بين الشرق والغرب، وأن تكون صلة وصل بين شطري البحر الأبيض المتوسط، بدلاً من أن تكون تلك اللسعة التي تستنزف الشرق الأدنى، وتشل أوروبا – الغرب الأدنى – في علاقاتها مع الشرق الأدنى. ووفاق من ذلك القبيل هو الذي سيتيح أيضاً للإسلام أن يكون هو ذاته، بعيداًعن تأثير نظرة الغير ووقعها الجارح عليه، وللمجتمع العربي أن يمتلك القدرة على العيش وفق اختياراته الحرة لما يستهويه أيديولوجياً ويجتذبه ثقافياً. إنَّ عملية فهم التحوّلات التي تحدث في مجتمعنا العربي (مجتمعات الشرق الأوسط) لا يمكن أن تكون شاملة لأنَّ هذا ( الشرق ) معرَّض لطغيان مزدوج يكتفي بتسيير شؤون عالم قيد التحلل : طغيان خارجي، وهو طغيان القدرة العسكرية الصهيو-أمريكية الفائقة، وطغيان داخلي، وهو طغيان سياسي يسعى إلى مزيد من تغذية قوى التشرذم المولِّدة للانشقاقات التي تعزز بدورها تسلط بعض الممالك والمشيخات باسم العروبة وحماتها جامعة الدول العربية.

عاجل
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق