“نحو تعليم فلسطيني بمعايير دولية”، شعار شدني لأحدى المؤسسات الأجنبية العاملة في رام الله والنشطة في مجال التعليم.
قضية فلسطين اصلا نتجت بفعل “معايير دولية” لنظام أخرق وهرمي قائم على سطوة القوي وقهر الضعيف، والبطش بالعاجز والغريب، والتنكيل بالقاصر والصغير، والتطاول على الروح والضمير بقصد النهب والتدمير، وهذا بالتمام تعريف الظلم والع
دوان.
كيف إذن لمعايير هذا النظام الذي اعتاد توليد الخراب وسفك الدماء ان يجد حلولا في التنشئة القويمة و شؤون التعليم!
الأمم المتحدة، وليدة نشوات منتصري حرب دمار البشر الثانية (1945) ما كانت لتخلق دولة “للعبرانين” لولا هيمنة الظلم الثقيلة على سماء الكون وترابه. والحكايا الوضيعة للمصارف الكبرى وافقار البنك الدولي لنصف دول الارض كي تلعقها حيتان الجشع التي لا تشبع.. كلها تاتيك دوما مغلفة بمقاييس دول “العالم الحر” ومعاييره المصممة لسرقة جهد وعرق الناس في كل مكان من الكون.
التعليم لدينا، والذي ينظر اليه كغاية اقتصادية بحتة صار اليوم يعكس نتائج معايير الغرب للمنظومة التعليمية. تعليم تلقيني يفصل بغير وجه حق العلوم عن بعضها البعض، ولا يعير وزنا لربطها معا وتبيان طبعها التشابكي. التعليم بحسب المعايير الدولية يتجاهل صبغ العلوم بتوليفتها الانسانية الاخلاقية التي يكون العدل ميزانها والحياة قيمة رفيعة ومعنى جماليا متناغما.
خذ الطبابة اليوم المبنية على المرض والتي بترت منها فلسفة الحكمة ومهمة الطبيب في تتبع مصادر المرض وبحث أسباب وجوده ومكافحته؛ فصارت غايته التكسب السريع والرفعة الاجتماعية. ودراسة القانون مبنية على إنتاج المخاصمه فلا يتعلم المحامي المهارات لخلق مجتمع مسالم، بل العكس. اما التوظيف فمبني على الحاجة للدخل فنجدنا مرغمين على ما نقوم به من كدح رغم فقدانه لمعنى عميق في حياتنا.
كالكثير من سياسات التعليم في المنطقة وجلها مستوردة و تلقينية لا تراعي مناهجها المدرسية الضرورات المعرفية الخاصة بكل منطقة وبيئة؛ يقبع عاجزا نظام التعليم الفلسطيني الذي لا مكان فيه للتفكير النقدي والتحليل الحر.
إنه لا يولي اعتبارا لمهارات الاكتفاء الذاتي التي مكنت الأجداد من ليس مجرد البقاء في الأرض، بل والحياة الكريمة. يتوجب التركيز في مناهج التعليم على دراسة الإرث الزراعي والمعماري والصناعي وغرسه بشكل عملي في روح اطفالنا جنبا لجنب مع قيم العمل التطوعي والرفق بالأرض باعتبارها الكنز الاصيل الأثمن في الوجود. ايضا، لا بد من تهيئة النشئ القادم كي يكون قادرا على التعامل مع الظرف القاسي عبر ابتكار مناهج عصرية تكون الصحة النفسية موضوعها. إن المجتمع الذي تتربص به الاضطرابات النفسية، وتحاصر أفراده الالام الذهنية نتيجة لعادات متوارثة، وتتصارع فيه الأمراض السلوكية والتناقضات المرة… ناهيك عن وجود جسد غريب- إسرائيل مزروع في احشائه… كل هذا سيفضي إلى انهزام معنوي يسهل من الوقوع في الهاوية.
علينا- كفلسطينين وكذلك الشرق المستنير ابتكار مناهجنا البديلة الفاضلة وأن نجد ما يعالج إخفاقاتنا البنيوية الغائرة.
بلا شك أن التعليم هو المضمار الأكثر أهمية في بناء موازين جديدة وقلب القائم “المقيت” من النظم التي للفكر الغربي الاستعماري نصيب كبير في تكوينها.
فلنبني المعايير الوطنية وفقاً لخصوصيتنا وهويتنا واهدافنا التي يجب تحديدها بعناية—وأن تظل دائما متجانسة مع ضمائرنا ومع قيم النبلاء والفقراء من البشر.. الحاملين مثلنا كامل أعباء “معايير الغير”، والحالمين مثلنا بالسكينة… أخوتنا المتناثرين في كافة جهات المعمورة.
#الفلسطيني_بغير_العالم
وائل السعد: مفكر باحث وناشط بيئي يعيش في مدينة جنين، فلسطين المحتلة