رؤية مفارقة لثقافة الخلاف والاختلاف

28 يناير 2022آخر تحديث :
رؤية مفارقة لثقافة الخلاف والاختلاف

بقلم : عفاف عمورة
شاعت في زمننا الرمادي الذي نعيش ،ثقافة الاختلاف وثقافة الخلاف ،والثقافتين متباينتان ومفترقتان في المبنى والمعنى. إذ إنّ هناك فارقاً كبيراً وواضحاً بين الاختلاف والخلاف، فالاختلاف هو تباين في الرأي أقرب إلى الحوار إن كان صامتاً أو معلناً، منه إلى أي شيء آخر، وأنَّ احتكار الرأي والصواب ليس من شيم العلماء والفلاسفة والمفكرين وأهل الحكمة، بل يجب على الإنسان أن يكون متقبلًا للرأي والرأي الآخر، مستقبلًا له بحسن نية، إن احترام ثقافة الاختلاف لن تولد في يومٍ وليلة، ولكنها تنمو مع الفرد متساوقةً مع ثقافتهِ ووعيهِ .ولكي تنمو تحتاج إلى من يغذيها ويرويها داخل الأسرة والمدرسة، والمعهد والجامعة ،والجامع والكنيسة. وهنا نجد أنه علينا أن نزرع في عقول ووجدان أبنائنا أنّ الاختلاف يصل بنا إلى التكامل الصحيح ،وأنه ليس مجالاً للصراع أو النزاع، بل مجال لاكتساب الخبرات والمهارات وتفتح العقل، وازدهار الشخصية ونموها. لذا علينا أن نربيهم على التمسك بأخلاق النبلاء في حالة الاختلاف والتعدّد.فقد تختلف الأجيال في الثقافة والفهم والوعي ليكمل كل جيل ما بدأه من سبقه، يقوِّم السلبيات ويشذِّبها ،وينمّي الإيجابيات ويرفع من شأنها، قد نختلف في مذاهبنا الدينية لكن دون ابتداع. نختلف ونتفارق في الكثير من التفاصيل التي جاز الاختلاف فيها دون المساس بقواعد وأساسات الدين الراسخة، قد نختلف في انتمائنا وتوجهنا السياسي لبناء الوطن لا لهدمه.
أمّا الخلاف على تلونه وتنوعه ففيه دلالة بروز عنصر الشعور والإرادة العميقين بالحدّ الفاصل بين الأطراف، فالاختلاف ظاهرة طبيعية في حياة الناس نجمت عن أنماط البشر وحالة سلوكهم وتطورها. وتنوع الإنسان ومشاربه الفكرية والمعرفية، أما الخلاف فغالباً ما يكون صداماً ومواجهة في المصالح، ومتعارضاً ومخالفاً في الأهداف قد تتولَّد عنهما خصومة كبيرة وشرخ كبير تؤدي بالضرورة إلى مواجهاتٍ ليس لها حدود، ربما تصل إلى الصراع الدموي، وعندما نتحدث عن ثقافة الاختلاف ،فإننا نتذكر المقولة الرائعة للإمام الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ (150-204هـ / 767-820م) هو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه. يقول :(رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ)، وقد اتخذ الفقهاء من هذا القول قاعدة أصولية يطبقونها على المسائل التي تحتمل الظن، وباب البحث والاجتهاد مفتوح فيها. وبالرغم من أنّ الاختلاف أمرٌ مسلَّمٌ به، إلا أننا نتعجّب من ردّة فعل الناس حين يظهر هذا الاختلاف في الآراء والمعتقدات والمفاهيم والأفكار، فبالرغم من المقولة الشهيرة للدكتور أحمد لطفي السيد المفكر والفيلسوف المصري الشهير الذي يقول : (الاختلاف فى الرأي لا يفسد للودِّ قضية) لكن أغلبنا كبشر نردِّد هذه المقولة دون إعمال لها وبمجرد الاختلاف في الرأي نجد كل شخص يسارع بشهر سكاكينه وخناجره ،ويبدأ بالشتيمة والقدح واستنهاض الكثير من الكلمات النابية القاسية ،وكل ما يملكه من أسلحة ضد الآخر. بغضّ النظرعن هذه الأسلحة مشروعة أم غير مشروعة، ويتحول الاختلاف فى الرأي إلى مشاحنات ومن ثم إلى حرب ساخنة .ويتسابق فيها الأفراد لإظهار أيهم أكثر حكمةً بالرغم من أنَّ الحكمة ليست مجالاً للصراع ، إنما هي منحة إلهية (يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )، (سورة البقرة ٢٦٩ (.ومن صفات الحكماء والعقلاء تفتّح العقل كي يصبح نضراً، كما يتصف بوساعة الصدر لتقبل الرأي والرأي الآخر من دون انحياز أو تعصّب ،ويستطيع الشخص الحكيم، والشخص العاقل أن يقدِّر أنَّ الاختلاف عائدٌ للمرجعية وأساليب التربية وفنونها وظروف النشاة بشكلٍ عام، فالاختلاف حالة صحية وفقاً للمقولة الآتية :(لولا اختلاف الآراء لبارت السلع) . وحسب ما قاله الكابتن الطيار المدني عبد الله بن عبد الكريم السعدو : ( لولا اختلاف الآراء لأصبح الناس نسخاً مكرّرة يتزاحمون على نفس الطريق ،ونفس الهدف والاتجاه، لولا اختلاف الآراء لأصبح الناس صوراً مكرّرة، ولتوقفت العقول عن الإنتاج. (
لقد جعل ذلك الاختلاف لحكمةٍ محدّدةٍ أرادنا أن نلتفت إليها. والحكمة هي في ثراء التنوع والتعدّد، وهي في قدرة التنوع الذي هو ابن أصيل للاختلاف، على أن يجعل من حياة البشر على الأرض حياةً فيها من الغنى والثراء، بقدر ما فيها بالضبط من الاختلاف والتعدّد ذاته على مستوى الرؤى، ومستوى الأفكار، ومستوى المفاهيم ،ومستوى التصورات، ومستوى وجهات النظر بين الناس ! وتتدرج مستويات الخلاف حيث نجد الخلاف الخفي الذي يتمثل في مشاعر داخليه غير ودية وغير لطيفة لدى أحد طرفي الخلاف تجاه الطرف الاخر، وأسباب هذه المشاعر وتلك الأحاسيس عديده منها الحسد والغيرة.وهذا المستوى يتمثل في بدايه الخلاف والشقاق ويتطوّر إلى مستويات اخرى متعدِّدة. كما يتمثل الخلاف المحسوس، في تحول المشاعر والأحاسيس المخفيه الى مشاعر محسوسة ومشعورة ،ويحدث ذلك حينما يدرك أحد طرفي الخلاف ،المشاعر والأحاسيس الخفيه لدى الطرف الاخر. كما أنَّ الخلاف الظاهر، وهو التي تظهر فيه آثار الخلاف والشقاق جليّةً واضحةً، إما بمشاعره العدائية المتبادلة ،أو بأقوال حادّة جداً .وقد يتطور الخلاف والشقاق الى عنفٍ واحتكاك بدني ،أي صراع مادي يمكن أن يصل إلى حالة الصراع الدموي نتيجه اصرار كل طرف على رأيه.
إن أكثر ما يحزن حين نجد بعض العائلات والأصدقاء يتفكّكون ويتحوّلون إلى أعداء. ويبدأوون فى احتقار وانتقاص بعضهم البعض بسبب اختلاف رأي أو توجه، إنّ الاختلاف سنّةً كونيةً ،فانزع ما بداخلك من كرهٍ وحقدٍ لمن خالفك الرأي لعله هو الصواب وهو صاحب الرأي السديد، بل لعلكم جميعاً على صوابٍ أو على خطأ حول قضية ما.
فمن المنطقي أن نختلف فى وجهات النظر ونختلف في فهم القضايا البينية بين الناس، ونختلف في التوجهات والأهداف عموماً. لكن لا يوجد أي منطق في التصرف بعنفٍ أو بهمجيةٍ وتعصّب لأفكارٍ ومفاهيم أساس صحتها من خطأها نسبي بحت. إن الاختلاف ليس رجعيةً أو تخلفاً ،ولكن الخلاف بسبب الاختلاف وعدم التفاهم هو قمة التخلف والرجعية.
إن الحديث عن ثقافة الاختلاف هو محاولة أعادة إلى الأذهان ضرورة الارتقاء بلغة الاختلاف إلى مستواها الراقي الذي يسمو بها عن السقوط في مستنقع الخلاف والتشابك، ولن يتحقق ذلك الهدف إلا بالعودة إلى التقاليد الأصيلة في الحضارات الإنسانية المختلفة التي تناولت آداب الحوار وأنماط النقاش الحر البنّاء. بدءاً من المجالس النيابية الأولى ،ومجالس الشيوخ، والبرلمانات في الحضارات الكبرى. وصولاً إلى المؤسسات العلمية التي تنتج العلم والفكر والمفكرين ،والكيانات الأكاديمية التي تساهم في بناء الأخلاق وأسس الإنسانية ،والاعتراف بالآخر ،وحرية الرأي والرأي الآخر، وذلك تأكيداً في النهاية لمقولة فولتير الشهيرة : (إنني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً للدفاع عن رأي أختلف معه)، وقديماً قالوا: (الاختلاف لا يفسد للود قضية) هاتين المقولتين اللتين تدعمان بقوة هذا النسق من التفكير الحديث العصري.

المصدرالكاتب للمركز الفلسطينى الأوروبى للإعلام
عاجل
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق