دور مراكز الدراسات والأبحاث في مواجهة التضليل الفكري،،، بقلم : عماد خالد رحمة

31 يوليو 2021آخر تحديث :
دور مراكز الدراسات والأبحاث في مواجهة التضليل الفكري،،، بقلم : عماد خالد رحمة

ليس من الحق أو العدل أن ينصِّب الواحد نفسه قاضياً على الآخرين أياً كان، ويبدأ بإصدار الأحكام هنا وهناك بما يخدم أهوائه ومصالحه الخاصة، أو مصالح جهة ما ينتمي إليها. ولكن عندما نجد الكثير من حملة الأقلام والأفكار يقومون بالدور نفسه،وبشكلٍ وموضوع غير قانوني ،وغير شرعي، حيث تجده يضع نفسه المالك للحق المطلق وصاحب الموقف الأول، ويبدو ملكاً أكثر من الملك.والآخرهو القابل للجمع والطرح، وحتى التقسيم واتخاذ الأوامر والنهي،علينا أن نقف في وجهه ونجابهه بما نملك من إرادة . كما يمكننا أن نجد في المكتبات الكثير من الإصدارات التي جعل صاحبها له الحق في تصويب هذا،وتخطئة الآخر ،وإرشاد الآخرين،على حسب اجتهاده ورأيه ،وربما ذوقه،والمشكلة تكبر وتكبرأكثر حينما يضيف لكلامه وما يكتبه من الاستدلالات المقدّسة التي لا يجوز الاستقواء بها لرأي شخصي بهذا التفرد.
ودرءاً لوجود مثل تلك الحالات التي تتمتع بفكر تضليلي علينا نحن العرب أن نعمل بكل طاقاتنا وإمكانياتنا لإنشاء مراكز البحوث والدراسات والمعاهد المتخصصة بكافة احتياجاتنا الحياتية الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية.فالغرب الأوروبي لديه مئات ،بل عشرات المئات من مراكز الأبحاث والدراسات المتخصصة في العديد من المجالات الفكرية والأدبية والفلسفية والعلمية وحتى اللاهوتية،والبحوث الطبية والتكنولوجية والهايتك إلخ.ففي جمهورية ألمانيا الاتحادية وحدها هناك 218 مركزاً للفكر،حيث تحتل ألمانيا المرتبة السادسة بين البلدان الأغنى بمراكز الأفكار وصناعة الأدمغة.الجدير بالذكر أنَّ البحث العلمي في جمهورية ألمانيا الاتحادية ومنذ أكثر من أربعين عاماً ونيِّف يضم في مراكزه ومعاهده البحثية أكثر من 3000 عالم ألماني وأجنبي من جميع الاختصاصات.

لقد بيَّن تقرير جامعة بنسلفانيا حول مراكز الفكر العالمية عام 2018 م الكثير من المعطيات والمعلومات الدقيقة حول مراكز الأبحاث والدراسات والمعاهد البحثية في المانيا .فهنا في المانيا مراكز الفكر تقدم الخبرات والمشورة للسياسة dpa حيث تلعب مراكز صناعة الفكر في ألمانيا دوراً مهماً في الحياة السياسية اليومية.ويتجلى نشاطها بالقيام بالأبحاث الهامة، وتختار الموضوعات الأساسية الأهم،وتقدم المشورة المبنية على الواقعية والعلمية للسياسيين.بهذا تشكل هذه المراكز نقطة الالتقاء بين العلوم والسياسة.ومن البديهي أن يتواجد العدد الكبير من هذه المراكز والمعاهد بشكل أساسي في العاصمة الألمانية برلين،وهي تتمتع باحترام وتقدير كبيرين أيضاً على المستوى العالمي.هناك أيضاً مؤسسة العلوم السياسة (SWP)التي تأسست عام 1962م.ونشاطها ينحصر في مجال السياسات الخارجية والأمنية،وحازت مؤشر مراكز الفكر العالمي على المرتبة 21 عالمياً.ومؤسسة العلوم والسياسة الألمانية تقدم المشورة لأصحاب القرار السياسي حول موضوعات السياسة الخارجية والأمنية. ومدير المؤسسة هو البروفيسور فولكر بيرتيس،الذي شغر سابقاً وظيفة نائب الأمين العام وكبير مستشاري المبعوث الخاص لمنظمة الأمم المتحدة إلى سورية 2015/2016 م.وبالتعاون مع صندوق مارشال الألماني نشرت مؤسسة SWP في العام 2013 م ورقة استراتيجية تضمنت نصائح حول السياسة الخارجية والأمنية الألمانية.
وهناك مركز الشفافية الدولية في المانيا (TI)، تأسس المركز عام 1993 م، ونشاطه الرئيس ينحصر في مجال مكافحة الفساد والفاسدين ،وكان مؤشر مراكز الفكر قد صنف المركز بالمرتبة 53 عالمياً .لقد اتخذت الشفافية الدولية (ترانسبارنسي إنترناشونال) من محاربة الفساد بلا هوادة هدفاً لها، وهي تنشر سنوياً مؤشر الفساد العالمي.الجدير بالذكر أنَّ رئيسة مجلس الإدارة في الشفافية الألمانية هي المتخصصة في العلوم السياسية (إيدا مولر Ida Müller)،التي كانت قبل ذلك ناشطة معروفة في المؤسسات الرسمية في مجال حماية المستهلك.يقوم عمل مركز الشفافية الدولية في المانيا TI بشكل أساسي على مجموعات عمل تطوعية يتم فيها تبادل الأفكار وصياغة المواقف حول مختلف الموضوعات الهامة التي تخص شفافية العمل والواقع المالي والفساد بكل أشكاله.

أيضاً يوجد في جمهورية ألمانيا الاتحادية الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية (DGAP) الذي تأسّس عام 1955م،ونشاطه الأساسي ينحصر في مجال السياسة الخارجية.ومؤشر مراكز الفكر وضع الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية في المرتبة 50 عالمياً.يقوم معهد الأبحاث التابع للجمعية الألمانية للسياسة الخارجية (DGAP) بوضع دراسات حول موضوعات السياسة الخارجية الألمانية،وهو يعتبر هيئة استشارية ومثيراً للأفكار في هذا المجال.والموضوعات الرئيسية التي يهتم بها هي الاقتصاد العالمي والسياسة الأمنية وسياسة الطاقة والهجرة.ويعمل في هذا المركز ما يزيد عن 30 خبير في السياسة الخارجية، ضمن عشرة برامج أبحاث.وتُصدر جمعية DGAP مجلة “السياسة الدولية IP”. وهي مجلة رصينة تقدم دراسات محكمة . ومعلومات دقيقة جداً.وهناك المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية (DIW) الذي تأسس عام 1925م ،ونشاطه ينحصر في المجال الاقتصادي فقط،ومؤشر مراكز الفكر صنَّف المعهد بالمرتبة 59 ( غرب أوروبا ) فقط وليس دول العالم. يهتم المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية (DIW) بالعلاقات الوطيدة وبالترابطات الاقتصادية والاجتماعية وهو أحد معاهد الأبحاث الاقتصادية الرائدة والهامة جداً في ألمانيا.ومع مؤشر النشاط الاقتصادي الشهري يقدم المركز واحدا من أهم مؤشرات التطور والنمو في الاقتصاد الألماني المتصاعد بقوة.ويعتبر السيد مارسيل فراتشر مدير ورئيس DIWهو واحد من أهم الاقتصاديين في ألمانيا.
وهناك(مؤسسة البحوث الألمانية (Deutsche Forschungsgemeinschaft) أو اختصاراً DFG، هي مرحلة هامة لتمويل البحوث الألمانية والمنظمة أكبر منظمة من هذا القبيل في أوروبا. وDFG تدعم البحوث في مجال العلوم والهندسة،والعلوم الإنسانية من خلال مجموعة كبيرة ومتنوعة من برامج المنح والجوائز،وتمويل البنية الأساسية. ويستند تنظيم ذاتي في مدينة بون الألمانية والتي تمولها الولايات الألمانية والحكومة الاتحادية.فقط جامعات الأبحاث الرائدة في ألمانيا هي أعضاء فيDFG .هذا ما نراه في الغرب الأوروبي،وأنا هنا قدمت بعض نماذج مراكز الأبحاث والدراسات وتخصصاتها ،وهناك مراكز أبحاث مختلفة في جميع التخصصات العلمية والأدبية واللاهوتية وكذلك الفنية.حيث نرى في ألمانيا بشكلٍ خاص وأوروبا بشكلٍ عام الكثير من هذه المراكز المتقدمة التي تبني نتائجها على دراسات علمية موضوعية، وتصبح محل التقدير العالي والتنفيذ من صاحب القرار.
وبالعودة إلى ما بداناه،من أنَّ وجود مراكز الأبحاث والدراسات الجادّة تقوم بإفشال أي عمل لأي شخصٍ ينصِّب نفسه حاكما وناقداً ومرشداً بغير وجه حق.وبخاصة أصحاب أقلام السلطة المنافقين،الذين ينصِّبون أنفسهم قضاة على الآخرين بغير وجه حق.من هنا نرى ضرورة وجوب إنشاء مراكز دراسات وأبحاث علمية متخصصة في العديد من المجالات الفكرية العلمية والأدبية واللاهوتية وكذلك الفنية. لكننا عندما دققنا في نتاج بعض معاهد مراكز الدراسات في وطننا العربي على قلتها ومحدوديتها،وجدناها غير مستقلة وأنها موجهة ومؤدلجة،ونتائجها تكون مقررة قبل الشروع في دراساتها وبحوثها.وهنا علينا التفريق بين الانحياز والحياد.وهذا سبب عدم ثباتنا على رأي محدَّد، وكم من رأي تغيَّر عندما تبدأ الحوارات العملية الجادة. وذلك لعدم استناد الباحث على حقائق ومعلومات دقيقةبالدرجة الأولى. يُضاف إليها حالة الانحياز على حساب صحة وهدف المشروع.كما نجد المراوغة والمواربة في الحوارات عبر البرامج الفضائية وانخفاض مستوى تقديم الحقائق ،وانخفاض موضوعية الحوار وآدابه،والانحياز لطرف على حساب طرف آخر.والمشكلة الأخطر هي أننا نحتفظ بتنظيرات بحثية ورقية ولسانية حول الكثير من المسلمات الأخلاقية والعلمية.ولكن عندما تبدأ الممارسة العملية الميدانية تبرز لنا حقائق الالتزامات الفكرية والعلمية.كما نجد الكثير من المنظرين والباحثين الذين يستهينون ويقللون من قيمة الآخر وعلومه ومعارفه وحتى شخصيته،من أجل مكاسب يومية ومستقبلية.وترويجاً لحزبٍ أو منظمة،أو جماعة،أو هيئة ما.ويعرفون أنفسهم أنهم على باطل وليسوا على حق .ولذلك يقل في زماننا هذا وجود الباحثين والمفكرين الجادين المستقلين عن انتماءاتهم الحزبية والتنظيمية ،ممن يملكون الشجاعة لمخالفة الانتماء عند حضور الذمة.والمخالف لآراءهم سيعاقب بشتى الطرق والوسائل.أولها الطرد من العمل،أو بشكلٍ ألطف التسريح من العمل.لكن الأنظمة السياسية كثيراً ما تدرك خطورة تلك الخطوة لأنها إذا اتبعت سياسة الطرد بشكلٍ دائم لوجدت شوارع البلاد ملأى بالمسرحين.وهنا مكمن خطورة المشكلة حينما يكون الولاء للحزب أو للمنظمة مقدماً على الولاء للحق والمجتمع والمصلحة العامة،وهذا المنهج الذي وضعه المفكر والفيلسوف السياسي الإيطالي مكيافيللي (نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي (Niccolò di Bernardo dei Machiavelli)‏‏) الذي هدفه (الأنا ) وليس ( النحن ). ونتيجة لهذا الخلط علينا التفريق بين بين النفاق العملي والاعتقادي، والاعتقاد من البواطن،ولكن الظاهر يراه الجميع ويعيه العقلاء في الأمة.

إنَّ التضليل الفكري اليوم الذي يزعم امتلاكه للحقيقة المطلقة، والنيل من الحقيقة الغائبة، لهو المتسبب الأوّل في تخلفنا الفكري الذي أخرج لنا التخلف الميداني المتجسد على أرض الواقع،ومن جنحة الرأي إلى جريمة التبرير،ومن خطأ الفكر إلى خطيئة الفعل،التي جعلت بلادنا العربية مجتمعةً لا تساوي بعض الناتج الاقتصادي لواحدة من الدول غير التي تقبع على بحارٍ من النفط والغاز وجبال من المعادن والموارد الثمينة الهائلة،وإنما قائمة على أيدي رجال يفكرون بعقولهم النضرة ويعملون لزمانهم مع احترامهم ثوابتهم وتمسكهم بمبادئهم ومحافظتهم على قيمهم وحتى عاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها من الأجداد ،وإذا كان الفعل الخاطئ جريمة كبرى، فإن الجريمة الكبرى الأشد والمصيبة الأعظم عندما نبرر هذا الفعل الشائن والتخلف عبر التضليل الفكري الممنهج المعتمد على النظريات الميكافيليية .

المصدرالكاتب للمركز الفلسطينى الأوروبى للإعلام
عاجل
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق