* قلتَ لي ستغادرُ، هيَ اللَّحظةُ التي لا أجيدُ طقوسَها. كانت سيجارتُكَ تذبلُ وتلدغُ رأسَ أصبعِكَ، وكاسةُ الشَّايِ كما هيَ تركتَها تبردُ؛ أو لتبرِّدَ لحظةَ غيابِكَ عنّي، كنتُ أعددتُ لكَ مواسمَ الجرأةِ والمشمشِ، تمامًا حالة نستنفرُ بها جرأتَنا. هوَ موسمُ المشمشِ، أسبوعُه لا ينتظرُ نضوجَ فكرةٍ نعيدُ رسمَها ثانيةً، ونؤجِّلُ جدالَنا حولَها. ***وأنتَ كما أنتَ كما هيَ، محبَّةٌ تتطوَّحُ وتطيحُ بي، تأخذكَ منِّي زحمةُ الحقائبِ، وعجقةُ العملِ المستعجلِ، لا بأسَ، سوفَ أكونُ جريئًا في نهارٍ أشعلُ الشَّمسَ وتظلِّلُني خرُّوبةُ “المحظة” العجوز، وأطلقُ في برِّ الجرأةِ سهامي، أصطادُ كلَّ حجلِ الوادِ بعينين وابتسامةٍ، وبصفرةٍ من الشَّفتين، بغمزةٍ مكحّلةٍ، بإثمد اللَّيمون في طابونِ أمِّي، وأفرشُ على “ظهرِ الوَعْرَةِ” سرجَ حصاني، وأتَّكئُ لأشربَ شايَ الحطبِ نخبَها.في المساءِ أفتحُ نافذةَ “العَقد” وأُعلِّي صوتَ المذياعِ على “رجّعوني عينيك” وأقفلُه على “لسة فاكر”. ***هذه المرَّةُ سوفَ أكونُ مدنيًّا، وإنَّما بطبعِ فلَّاحٍ دخلَ الموضةَ تمامًا ونسيَ مشيتَه؛ أعني رقصةَ العصرِ، وأغنّي لـ”مادونا” أغيِّرُ “اللوك” أفردُ شعري بعشوائيَّةِ فتيانِ “المنارةِ” و”عبدون”، أطلقُ ذقني وأعقدُ قميصي بشكلٍ فوضويٍّ، أمزِّقُ بنطالَ الجينز، ليتَ جدَّتي تعلمُ أنَّ ما كانَ من أطفالِ الحارةِ يوم كنَّا نتسلَّقُ تلالَ “الوعرِ” ونمزِّقُ سراويلَ العيدِ بعدَ فواتِه أصبح موضةَ العصرِ، ها نحنُ قد سبقناها بسنينَ وسنين، ولو فهمنا لكان حقُّ امتيازِ الموضةِ لنا. ***سوفَ أركنُ اليرغولَ والشبَّابةَ قليلًا، وأبعدُ عنّي ظريفَ الطُّولِ والدّلعونةَ وجفرا، خلفَ حلكةِ اللَّيلِ، أو أتركُهما تحتَ عريشةِ حقولِ البطِّيخِ وعبَّادِ الشَّمس. ***أريدُ حبًّا باتِّساعِ “أوتوسترادات المدن” حبًّا بلونِ “آرمات” المقاهي التي تشعلُ وتضيءُ أحرفَ اللَّاتين. أريدُ سهمًا يشيرُ إلى طهوِ نعاسٍ مغمّسٍ برائحةِ اللَّيلِ، بأرصفتِه المحشوَّةِ بالمتأخِّرينَ عن أعمالِهم.أريدُ أن أستميلَها بعيدًا عن الحبِّ البريِّ والقرويِّ وانتظارِ الشَّوقِ خلفَ ظلالِ التّينِ وغزلِ العيونِ والعزفِ على الرّبابةِ خلفَ عينِ الماءِ أو على طريقِها. لا أريدُ أن تشاطرَني تينةُ “أبو العجايز” انتظاري لها. سوفَ أطلقُ للساني كلامَه، ستلاحقُني عمَّتُها وعجوزُ الحواكيرِ، وأمّي تحملُ خبزَ الطَّابونِ على رأسِها وتفضحُ وقاحتي، وتجتمعُ العائلةُ، تناقشُ أمرَ جرأتي وتمرُّدي. ***قيلَ لي إنَّني تمرَّدتُ على القابلةِ حينَ وضعتني أمّي، رفستُها بقدمي حينَ صرختُ يا كونُ اتَّسعْ وهَيِّءْ لي عرشَ الكلامِ. تمرَّدتُ على أمِّي حينَ رفضتُ الرَّضاعةَ، ففتَحَتْ فمي جارتُنا بقطراتِ الرُّمَّانِ، يا لنبيذِه الذي منحني المعانيَ ونشوةَ البكاءِ. حينَ ركضتُ شربتُ الحليبَ معَ خرافِ الرَّبيعِ. شاطرتُهم ضرعَ أمَّهاتِهم، تمرَّدتُ على القطيعِ حينَ اشتدَّ عودُ اللَّوزِ ليكونَ عكَّازةً أهشُّ بها على غنمي.كبرتُ وكبرتُ، صرتُ وتمنَّيتُ وتمرَّدتُ على عمري حتَّى اختلطَ على النَّاسِ سنوات ميلادي، وعدَّاد حياتي. ***هي ظلالُ العمرِ، وظلالُ النَّوافذِ، ظلالُ صوامعِ القمحِ على البيادرِ، ظلالُ شعرِها حين يلمّ ويسترخي على كعبِ جدارِ الشّيدِ الممزوجِ بلونِ “النّيلة” وتمنح الضُّحى زرقَة السَّماءِ في عينيهِ، هي السَّماءُ في اللَّيلِ خلفَ “طاقةِ” بيتِها، نجمة تسهرُ على فلَّاحَيْنِ يسامرُهما الشَّوقُ ولسعةُ البردِ، وخفقُ الانتظارِ لندى الحقولِ، كلّ هذا وتقولُ ستغادرُ؟!!
بطاقات لسفر مؤجل ,,, عبد السلام عطاري
