انزياحات الديمقراطية نحو مدلول جديد ،، بقلم : عفاف عمورة

10 أغسطس 2021آخر تحديث :
انزياحات الديمقراطية نحو مدلول جديد ،، بقلم : عفاف عمورة

تعتبر الديمقراطية إحدى القيم الأساسية لهيئة الأمم المتحدة. التي تدعمها من خلال تعزيز حقوق الإنسان والتنمية والسلام والأمن، وخلال خمس وسبعون عاماً منذ توقيع ميثاق الأمم المتحدة، بذلت الأمم المتحدة جهوداً كبيرة لدعم الديمقراطية في جميع أنحاء العالم،أ كثر من أي منظمة عالمية أخرى. لذا فالأمم المتحدة تعزز الحكم الرشيد، وتراقب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والنقابية والمحلية، وتساعد في صياغة دساتير جديدة في الدول الخارجة من الصراعات السياسية والعسكرية. وتدعم المجتمع المدني لتقوية المؤسسات الديمقراطية وهيئاتها ، وتضمن تقرير المصير في البلدان التي حصلت على استقلالها، وانتهى فيها الاستعمار.
في الحقيقة أن مفهوم الديمقراطية لا يزال محطّ جدل ونقاش واسع من حيث التعريف، فهو من أكثر المفاهيم في علم الاجتماع السياسي، التي لا يمكن القبض بمضمون محدد لها بعيداً عن طبيعة الدولة والنظام السياسي والاقتصادي القائم، ولئن بقي التعريف اليوناني القديم ،القائل بأن الديمقراطية هي (حكم الشعب) ماثلاً أمامنا ومتداولاً وأساسياً في أدبياتنا ووثائقنا السياسية ، إلا أن هذا التعريف، وخصوصاً منذ بدايات القرن العشرين، عرف انزياحات عديدة وأخذت مناحي جديدة ، مع التطور الرأسمالي من جهة، وترسيخ قيم الليبرالية( النظام الحر) من جهة ثانية، فقد أصبح مفهوم الديمقراطية ومدلولها مقترناً أكثر بشكل نظام الحكم، القائم على التداول السلمي للسلطة الحاكمة، عبر صناديق الاقتراع.
عندما ساهم مؤسسو الأمم المتحدة و صاغوا ميثاق الأمم المتحدة ، لم يذكروا كلمة الديمقراطية، وفي عام 1945م لم تؤيد العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة فكرة الديمقراطية كنظام ولم تمارسها على أرض الواقع . ومع ذلك، فإن الكلمات الافتتاحية للميثاق، (نحن الشعوب)، تعكس المبدأ الأساسي للديمقراطية أن إرادة الشعوب هي المصدر الشرعي للدول ذات السيادة، وبالتالي، الأمم المتحدة ككل.
الأمم المتحدة لا تدافع عن نموذج محدد للحكومة أو للدولة ، ولكنها تروِّج للحكم الديمقراطي كمجموعة من القيم والمبادئ والنواميس التي يجب اتباعها من أجل مشاركة أكبرللشعب ، ومساواة وأمن وتنمية بشرية. وتوفر الديمقراطية بيئة تحترم الحريات الأساسية وحقوق الإنسان ، ويتم فيها ممارسة إرادة الشعب التي يعبر عنها بحرية وطوعية ، فإن للناس رأي في القرارات والقوانين ويمكنهم محاسبة الحكّام وصناع القرار، وانَّ للنساء والرجال حقوق متساوية وجميع الناس في مأمن من التمييز.
هذه القيم بمجملها تتجسد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ويعرض مفهوم الديمقراطية بالقول “إرادة الشعب هي أساس سلطة الحكومة والدولة “. بل إنَّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية . يعمل على تنميتها وتطوريها ويضع الأساس القانوني والتشريعي لمبادئ الديمقراطية في القانون الدولي. وهو يغطي كذلك حرية الرأي والتعبير، والحق في التجمع السلمي، والحق في حرية تكوين الجمعيات والمؤسسات مع الآخرين.
لقد نصَّت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة على أن تتخذ جميع الأطراف المتعاقدة البالغ عددها 189 طرفاً ،جميع التدابير الضرورية والمناسبة لضمان تمكين المرأة من التصويت والترشح للانتخابات بكل مستوياتها، والمشاركة في الحياة العامة في الدولة وصنع القرار، بما في ذلك على المستوى الدولي.
لكن هذه التعريفات وملحقاتها ، تبقى عامة، وخاضعة لتفسيرات واجتهادات متنوعة وعديدة، فالكثير من حكومات دول فاعلة ومؤثرة على الصعيد العالمي ، تدّعي علناً أنها تمثّل إرادة الشعب، من دون أن تتبنى مرجعيات الأمم المتحدة والميثاق العالمي لحقوق الإنسان، أو حتى من دون أن تتوفر الشروط المطلوبة والضرورية لنزاهة الانتخابات فيها.
غالباً ما يتم ربط الديمقراطية بالغرب الأوروبي والأمريكي، أي ربطها بالنظام الرأسمالي الليبرالي، وتؤخذ التجربة الغربية برمتها بوصفها مثالاً عن الديمقراطية، خصوصاً لجهة قياس تجارب دول أخرى من دول العالم ، تُعرّف نفسها بأنها دول ديمقراطية، وإذا كانت التجربة الغربية قد مرّت بأزمات عديدة ومتنوعة ، لكنها تمكّنت بعد الحرب العالمية الثانية من بناء نظام سياسي قوي يمنع تأسيس أحزاب نازية أو فاشية، وذلك لضمان عدم تكرار تجربتيّ ألمانيا وإيطاليا في ثلاثينات القرن العشرين لما شهدته من حروب طاحنة ،وجرائم بشرية بشعة ،وصفت بالإبادات الجماعية ( الجينوسايد ) ، وكما ساهم النظام السياسي القوي بصيانة تجربة الانتقال السلمي للسلطة، لكن الديمقراطية الغربية بطابعها التمثيلي لم تُفضِ إلى نتائج عملية متطابقة في كل دول المنظومة الغربية، وفي كثير من الأحيان أصبحت مناقضة لأحد تعريفاتها الأساسية، أي بوصفها (حكم الشعب مقابل حكم النخبة).
من الناحية العملية، لا يمكن لكل أفراد الشعب أن يوجدوا في الحكم، وطبقاً لهذه الاستحالة، فإنَّ الشعب يوجد في الحكم من خلال ممثليه الذين ينتخبهم عبر صناديق الاقتراع ، أي الأحزاب السياسية بصفة خاصة، لكن الواقع العملي يطرح عدداً من الأسئلة حول صيغة الديمقراطية التمثيلية ومدلولها ، وأول تلك الأسئلة هو: هل بالفعل يمكن للديمقراطية التمثيلية أن تمثّل الشعب تمثيلاً حقيقياً؟
نجد الديمقراطية من وجهة نظر أثرياء الولايات المتحدة الأمريكية الذين يقومون بتمويل الحملات الرئاسية للحزبين الجمهوري والديمقراطي ، وقد وصلت تكلفة انتخابات عام 2020 م إلى عشرة مليارات دولار، وتهدف التمويلات تلك إلى تحقيق أهداف وفوائد كثيرة للداعمين الأثرياء ، وفي مقدمتها حماية مصالحهم المالية والاقتصادية ، وهو ما يجعل من انتخابات أعرق ديمقراطية في العالم سباقاً تنافسياً بين الأثرياء فقط، كما يجعل النظام السياسي الأمريكي نفسه، في أحد أوجهه، نظام حماية للطبقة الرأسمالية التي تتحكم بالمال والاقتصاد الذي هو تكثيف للسياسة .
النموذج الأمريكي هذا موجود بنفس تلك الدرجة التي أصبحت فيها الديمقراطية نظاماً سياسياً لحماية مصالح الأثرياء الأمريكيين ومؤسساتهم وشركاتهم العملاقة ، هذا النموذج موجود أيضاً في الديمقراطيات الأوروبية ، بما فيها الدول التي تنتهج الديمقراطية الاجتماعية، وإذا كان هذا النموذج قادراً على تحقيق مساواة قانونية للأفراد ، وتأمين الاستقرار الاجتماعي، واحترام حرياتهم وحقوقهم ، إلا أنه قد تحوّل أيضاً إلى شكل من أشكال التعاقد الاجتماعي بين النخب الرأسمالية المالكة للمال والثروة على إدارة المصالح فيما بينها، واستخدام الانتخابات وصناديق الاقتراع كوسيلة لتظهير عملية إدارة تلك المصالح.
أصبحت الديمقراطية مرادفة لحقوق الإنسان منذ عقود عدة ، لكنها في الوقت نفسه أصبحت آلية سياسية لمنع حدوث خروقات مؤثرة في تكوين الطبقة المهيمنة في المجتمع الديمقراطي، أي أداة لضبط ومعايرة الفوارق والتمايز الطبقية لمصلحة النخب، ما يستدعي فعلياً إعادة تعريف الديمقراطية من جديد ، ليس انطلاقاً من قدرتها على تمثيل الشعب بكل أطيافه ، بل من كونها الإطار السياسي لحكم النخب الليبرالية المميزة ، وخصوصاً النخب المالية والاقتصادية

المصدرالكاتبة للمركز الفلسطينى الاوروبى للاعلام
عاجل
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق