الهوية الوطنية ودورها في بناء الدولة الحديثة:
بقلم : عماد خالد رحمة .
الدولة الوطنية الحديثة التي تنتهج الديمقراطية والعلمانية لا تتحقق بمجرد اكتمال مدوَّنتها الدستورية،أو جملة قوانينها وتشريعاتها، حتى وإن حازت تلك المدوّنة وتلك القوانين والشرائع كشرطٍ أساس على موافقة الشعب أو أغلبية الشعب فحسب، وإنما تتحقق بحركية وآلية عمل مؤسسات وإدارات وهيئات الدولة والمجتمع المدني التي تعطي لهذه المدوّنة روحاً ومعنى وقيمة، وتجعلها قابلة للتطوير والتحديث والتجديد المستمر مع كل مكتسب تحقِّقه هذه الحركية في مجال منظومة حقوق الإنسان وتشريعاتها. فتاريخ الدولة الحديثة في الغرب الأوروبي ـ الأمريكي ليس تاريخ تطور العلوم الفلسفية والعلوم الإنسانية وتطور الاقتصاد الرأسمالي وعصر الأنوار فحسب، إنما هو درب الآلام الطويلة نحو الحرية والانعتاق أيضاً، وتاريخ الحروب الدينية والطائفية والأهلية بين من أصبحوا مواطنيها اليوم، وتاريخ نفي تلك الحروب والصراعات إلى خارج مدنهم، أي ــــ ويا للأسف الشديد ـــ إلى مدننا وأوطاننا العربية.
فمن وجهة نظر منظروا الدولة الحديثة يعتبرونها دولة المواطنة التي يعيش فيها جميع المواطنين بتساوٍ في الحقوق والواجبات، وهي دولة المؤسسات والهيئات والإدارات، والفصل بين السلطات، وهي الدولة الديمقراطية التي يتم تداول السلطة فيها بسلمية مطلقة ودون دم أو نار، بقوة وملكية الإرادة الحرَّة للجماهير عبر صناديق الإقتراع.
وهي الدولة وبنيتها وكل مكوناتها التي تمثِل جزءاً فاعلاً وهاماً من محيطها الإقليمي والدولي، وتقيم علاقات رسمية مع جميع دول العالم على أساس المصالح الحيوية المشتركة لشعوبها، وتشارك بفاعلية كبيرة في حفظ الأمن والاستقرار والسلم العالمي .كما هي جزء من العالم ينعم ويسعد بما يسعد به العالم، وتتألم لما يتألم له العالم، وشريك فاعل وقوي في اهتماماته وأولوياته وحاجاته.وتعتبر الدولة المدنية الحديثة التي تعدّ خلاصة النتاج الفكر البشري الاجتماعي والإداري والمؤسساتي والسياسي الحديث، والتي يحلم بها الجميع كموطن قومي له خصوصيته ضمن مكوّن إقليمي وعالمي عام في تناغم وتجانس عام يحقق الصالح الإنساني الحيوي المشترك.
الجدير بالذكر أنَّ الدولة الحديثة يمكن أن تمر بمراحل خطيرة تنحصر في مراجل التحّل الأولى من النظم غير الديمقراطية إلى نظام ديمقراطي مبني على أسس سليمة يتم فيها بناء ورسم وتمكين البنية الرئيسية لهذه الدولة الناشئة .لأنَّ الدولة الحديثة عندما تتعرَّض إلى عملية مخاض كبرى تواجهها العديد من العقبات والتحديات الجسام التي تعترض مسارها بشكل طبيعي وتلقائي بحكم طبيعة المخاض والولادة والتحوّل، يأتي في مقدمتها تحدي التفكك العرقي (الإثني) والمذهبي والذي يفكك ويقسم الدولة إلى طوائف وشيع دينية وسياسية تجعل من المجتمع مجموعة من الجزر المنعزلة والمنغلقة متعددة التوجهات الثقافية والاجتماعية ،والدينية والسياسية ،والتي تتقاطع في أهدافها وتطلعاتها وطموحاتها السياسية المستقبلية. كما أن نشوء الدولة الحديثة وبداية عهدها يرفع من سقف طموحات وتطلعات كل فئة في نيل أكبر قدر من الحصة الثقافية والاجتماعية والسياسية، هذا إن لم يكن حلم الهيمنة والسيطرة على الدولة الحديثة من بدايتها هو الشاغل الأكبر والأساسي لها. كما أن حقوق الأداء والتضحية الثورية كانت حاضرة بقوة للمطالبة بمكاسب سياسية علنية وواضحة.
في مقابل ما تم تقديمه ومعرفة تفاصيله في أثناء الحراك التحوّلي، مما يجعل حدة النزاع يصل إلى حالة الصراع الداخلي عالية وساخنة جدا بالقدر الغير معلوم سابقاً، خاصة عندما يكون الاستقطاب الداخلي والخارجي تحت تأثير الدعم والتمويل الخارجي بمعظم ألوانه، ما يزيد من حالة الصراع وربما يصل به إلى الاحتراب الداخلي والذي يبدأ ناعما وعلى نطاق ضيِّق وينتهي صلبا وواسعاً ليدمِّر مقدرات المجتمع ومكوناته فتضيع فرصة ولادة ونشوء وبناء الدولة الجديدة الحديثة المنشودة .
هذه المرحلة تعتبر الحلقة الأضعف في سلسلة محطات ومسار بناء الدولة الحديثة المنشودة ،مما يتطلب وضوحاً وصراحةً وجلاءً كبيراً لاستحقاقات هذه المرحلة الهامة ،والتي يؤكدها علم تخطيط وبناء القيم والهوية واستدلالاتها واستتباعاتها، بحتمية إنجاز مشروع لبناء الهوية الوطنية الواحدة والتي تعمل على جمع كافة مكونات المجتمع كأساس هام وضروري، وخطوة أولى في بناء الدولة الحديثة وتفاصيل مكوناتها البنيوية .
في هذا السياق يمكننا إدراك القصد الأساسي بأنَّ الهوية الوطنية الواحدة هي ذلك الوعاء الوطني الكبير الذي يعترف ويربط ويوثِّق ويستوعب كل طوائف ومكونات المجتمع بكل مستوياته وتطلعاته، ويخلق منه وبه كياناً واسعاً قوياً وكبيراً ويمثل الجميع دون استثناء ولا يقصي أو يلغي أحد، ولا يستقوي فئة على فئة أخرى ،بل يقويه وينميه ويدعمه داخل الإطار الوطني العام الذي يقوي كل مكوناته جميعاً. كما يصنع نقطة تلاقٍ مركزية ونقطة ارتكاز ،وانطلاق واحدة ثابتة للمجتمع لينطلق منها لتحقيق أهدافه العليا السامية.
نعم في هذا المعنى الكبير تعتبر الهوية الوطنية هي الدستور الضمني غير المكتوب وغير المعلن، وهي التشريع الداخلي في وجدان وشعور المواطن، كما يمكن أن تكون الهوية الوطنية كائن ومتجسِّد في نفوس أبناء الوطن الواحد يؤمنون به إيماناً راسخاً ويعملوا على تطبيقه والمحافظة عليه كجزء هام وأساسي من تكوينهم الوجداني والنفسي والذهني قبل أن يكون مكوناً ثقافيا ومعرفياً وقانونياً يتم الرجوع إليه.
وتؤكد حقائق التاريخ الإنساني الحديث حقيقة ضرورة وأهمية البدء بتصميم وإرساء الهوية الوطنية الواحدة الجامعة وتمكينها للمجتمع الواحد كبنية تأسيسه لباقي مراحل وتطور عمليات بناء الدولة الحديثة، لقد أكَّدت تجارب العديد من الدول هذه القضية فقد عملت الولايات المتحدة الأميركية على صناعة الهوية القومية الأميركية منذ وقتٍ مبكر حيث استوعبت أضخم تعدد وتنوع بشري (عرقي) عرفته البشرية ومزجته في كيان واحد موحَّد ومنظَّم بدقة، وموجَّه وجهة محدَّدة لتحقيق المصالح الأميركية العليا، كذلك الأمة البريطانية واليابانية والفرنسية، والأمة الماليزية وأخيراً التركية.
فالهوية الوطنية الواحدة التي تجمع المواطنين تعمل بكامل قدرتها وقوتها الكامنة على تحويل التنوع والتعدد الطبيعي للمجتمع إلى ثروة وطنية ضخمة لتنمية ونهضة المجتمع، وتحويل التقاطع والصراع الطائفي والمذهبي إلى احتشاد منظم نحو وجهة وطنية واحدة.ونزع كل أشكال القلق النفسي والذهني الخاص بالخوف وعدم الإستقرار لدى كل فصيل على ماضيه وحاضره ومستقبله خشية التهميش والإقصاء والحرمان من حقوقه التي ناضل الخاصة والعامة من أجلها.مستندين بذلك إلى منظومة القيم الإنسانية السامية العالمية المتعارف عليها عالمياً بالحرية والإخاء الإنساني والتسامح والمساواة والعدل والتراحم والتي تعزز احترام وحماية الإنسان وحقوقه والتعايش السلمي بين الجميع وصيانة وتعزيز الحريات الخاصة والعامة دون استثناء وإعلاء وتمكين وتطبيق القانون نصاً وروحاً بما يضمن الأمن والأمان ويعزِّز الاستقرار المجتمعي.