الفكر اليساري، فكر إنساني بإمتياز
كثيرا من “مثقفي” عصرنا يخلطون بين الفكر اليساري و الأيدلوجية التي أطلقت على نفسها يسارية.
الفكر اليساري هو فكر إنساني بإمتياز، مركز إهتمامه الإنسان و رسالته موجهة لتطوير الإنسان أولا إجتماعيا و ثانيا إقتصاديا، ليدرك موقعه ضمن العائلة و المجتمع الذي يعيش فيه، ليدرك حقوقه و واجباته، للمشاركة في تطور و نهضة المجتمع.
رواد الفكر اليساري هم أدباء عصر النهضة الأوروبية، الإجتماعية و الصناعية، حيث واكب هؤلاء تطور مجتمعاتهم التي كانت في بعض الأحيان سريعة، بداية من القرن الثامن العشر. هؤلاء (الكلاسيكيون) هم الذين أسسوا للفكر اليساري الإنساني و ساهموا بشكل جذري في تطوير مجتمعاتهم و توعية الجمهور الأوروبي، ساعدهم في ذلك إختراع المطبعة و الورق و بذلك سهولة نشر إنتاجهم الفكري و الثقافي، حقيقة أسست للثورات الأوروبية، بداية بالثورة الفرنسية.
القرن التاسع عشر شهد ذروة الإنتاج الفكري الإنساني اليساري و بإمتياز، نذكر من أهم رواده، الروس تولستوي و دويتسوفسكي الإنجليز دكنز و إميل برونتي، مرورا بالفرنسيين فكتور هوغو، إميل زولا، بلزاك و غيرهم، بالطبع واكب أدباء أوروبا هؤلاء و حصروا إنتاجهم الفكري لتثقف و توعية الإنسان الأوروبي، لإدراكه لحقوقه، من هنا نتجت الدولة الوطنية و العقد الإجتماعي و إستطاع الإنسان الأوروبي كسب حقوقه الطبيعية و المادية، لكن بعد نضال طويل و حربان طاحنتان قتلت حوالي 80 مليون أوروبي، حقوق اصبحت مقدسة في دول الديمقراطيات الراسخة. هؤلاء هم آباء الفكر الإنساني، رواد الأدب الكلاسيكي، لم يسلموا من بطش السلطات آنذاك، معظمهم خاضوا تجربة النفي القصري أو الذاتي، لكن ذلك لم يثنيهم عن إكمال رسالتهم الإنسانية حتى مماتهم. أي منهم لم يلطخ سمعته التاريخية بالخوض في السياسة و كانوا ينظرون لسياسي المرحلة بالريبة، و اعتبروهم أشخاص إنتهازيين، لكن هي السياسة، إن لم تكن إنتهازي تكون إخترت الموقع الخاطئ.
في المنطقة العربية و خاصة في بلاد الشام، ظهر الفكر الإنساني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكنه قُمع من الدولة العثمانية آنذاك و هاجر معظم رواده للعالم الجديد و شكلوا أدباء المهجر. على أنقاض الإمبراطورية العثمانية بدأت بوادر الإنتاج الفكري اليساري و خاصة في فترة الإنتداب البريطاني و الفرنسي، لكن للأسف قطعت الأنظمة الشمولية في العالم العربية الذي بدأت في العام 1952 هذه الإنطلاقة و ما زلنا نعيش الظلام الفكري الإنساني للآن إلا ما ندر، يمكن القول أن لبنان شكلت الإستثناء الذي اثبت القاعدة في موضوع كبح جماح الإنتاج الفكري الإنساني.
لن تجد فكر إنساني يساري بإمتياز يروج لرأس المال، و أي مثقف أو أديب ينتمي للنظام الرأس مالي إما يكون بوق مأجور أو هو في الأصل تطلعاته رأس مالية، لذلك لجأت البرجوازية في بداية سيطرتها في أوروبا للجوء للكنيسة (الدين)، حيث تحالفت في البداية مع الكنيسة البروتستنتية التي فرخت كنائس أخرى مواكبة بذلك تطور رأس المال، و من هذه التحالفات التحالف القائم بين الكنيسة الإنجيليكية الأمريكية و الرأس مال العالمي الوحشي الحالي.
أما الأيدلوجيات التي تطلق على نفسها يسارية، فلا تعدوا سوى أحزاب سياسية تسعى للسلطة، هذه الأحزاب مكونة من أشخاص لهم طموحهم الطبيعي، يكونون عرضة للإبتزاز السياسي و إبتزاز الآخرين، لكن هذه الأحزاب كان لها دور في تطوير مجتمعاتها و إنجاز العقد الإجتماعي و الدولة الوطنية، بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى.
أما الأحزاب الشيوعية فهي قصة مخالفة، بداية بإنقلاب لينين على الثورة البرجوازية ضد قيصر روسيا، الأيدلوجية الشيوعية لا يمكن تصنيفها باليسارية لأنها صادرت الحقوق الشخصية الطبيعية و المادية للإنسان ووعدته بالجنة و المجتمع المثالي (دين جديد) وعد بجنة على الأرض، هذه الأحزاب بداية بالحزب الشيوعي السوفيتي الذي أنشأ التجربة الإشتراكية الفاشلة، مارست السياسة و كأن الإنسان عدوها الأول والأخير، ما يثبت ذلك جرائم ستالين في الإتحاد السوفيتي، حسب الإحصائيات حوالي 20 مليون إنسان، و كيف تكون هذه الإيدلوجية إنسانية؟؟ في اليوم الذي تكون موجة حربها ضد الإنسان.
في منطقتنا العربية ظهرت أحزاب شيوعية، بين الحربين و إنتشرت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية و بداية الحرب البارد، هذه الأحزاب شكلت جزء من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة و الإتحاد السوفيتي، وكانت مجموعات تخدم مصالح الراعي (الإتحاد السوفيتي) مقابل بعض المنح الدراسية ورحلات الإستجمام لقيادتها في الدول الإشتراكية، وكيف يكون الحزب الشيوعي الفلسطيني وطني و يخدم شعبهة ووطنه في الوقت الذي يوافق على تقسيم وطنه وتوطين المشردين والمجرمين والمستوطنين وإنشاء دولة لهم، معقول أن تضحي بالمصلحة الوطنية لمصلحة الراعي؟؟ الأوامر جائت من الراعي ستالين آنذاك، الذي رحب و صوت لقرار تقسيم فلسطين وثاني من أعترف بالدولة الصهيونية، وأعتبر أن الحركة الصهيونية حركة تحرير وطني، أنظر للتناقد، بل ومدها بالسلاح الذي حسم المعركة لصالح المجموعات الصهيونية في العام 1948.
مشكلة هؤلاء أنه بعد إختفاء الراعي (الإتحاد السوفيتي) فقدوا البوصلة فتجدهم في الساحات العامة تارة يرفعون صور لرئيس قتل ومازال يقتل شعبه وتارة أخرى يرفعون صور لقاتلهم سابقا.
عقد السبعينات كان فرصة لهؤلاء لإعادة النظر في تاريخهم والإعتذار للشعب الفلسطيني على الخطأ التاريخي الذي إرتكبوه، الفترة كانت سانحة آنذاك بفضل الوعي التقدمي في فلسطين، الفرص التاريخية لا تتوفر إلا مرة واحدة، أما العيش على أوهام الجنة الشيوعية الموعودة من لينين وستالين والآن من بوتن، سيؤدي بهؤلاء للإختفاء الطبيعي بدون ترك أي اثر يسجل لهم في التاريخ الوطني.
كثيرا من المثقفين و المفكرين كان لهم دور رائد في توعية المجتمع الفلسطيني في عقد السبعينيات.