الـ (أنا) والـ (آخر) الصراع بين الشعوب والطغاة والصراع بين الحضارات

4 يوليو 2022آخر تحديث :
الـ (أنا) والـ (آخر) الصراع بين الشعوب والطغاة والصراع بين الحضارات

بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين
من المؤكّد عندما نبحث في مشكلة الـ (أنا) التي أنتجت وتنتج فكرة الـ (آخر) هي جوهر ولب الموضوع الخاص بفكرة صدام الحضارات وصراعاتها، وحوار الحضارات واستحقاقاته، وهو الذي استدعى ويستدعي الحديث عن الـ (آخر) المختلف. ففكرة التسامح ترتبط بشكلٍ عضوي في كيفية فهمنا ومعرفتنا بــ (الأنا) وبـ (الآخر) وبـ ( النحن ) والـ (هم) . بمعنى أدق نعرف كيف نرى أنفسنا بشكلٍ واضح وصريح. ونرى كيف تكون علاقاتنا بـ (الآخر). وكذلك نرى دورنا الذي نقوم به. متسائلين بعقلانية هل (نحن) أخيار أو مختارون لنسمو على الـ (آخر) ؟ أم (نحن) والـ (آخر) متساوون ،ويمكننا أن نكون على قدم المساواة مع الـ (آخر)؟
ربما يعتقد من يطرح مثل هذه الأسئلة أنه الـ (أنا) .ويعتبر في الوقت نفسه أنَّ الــ (أنا) حاضرة ومتواجدة وأنَّ الـ (آخر) غائب ومجهول بالضرورة وغير معروف. وهذا إفتراض أوّلي حيث يمكننا تعريف الـ (أنا) وبالتالي تعريف الـ (آخر) من هذا السياق ،حيث نجد أنَّ أي إجابة على تلك التساؤلات على الرغم من تعدّدها وكثرتها هي التي تشكِّل الـ (أنا) والـ (آخر). هي بالضرورة تساؤلات وإجابات مركّبة متداخلة ومتشابكة، وذلك لوجود عناصر ثقافية أساسية مثل (الدين والتاريخ المشترك واللغة المشتركة والعادات والتقاليد والأعراف)، وهناك عناصر اجتماعية متعدّدة أيضاً مثل: (الطبقة الاجتماعية، علاقات القربى، والعلاقات العشائرية والقبلية، والجوار،والمشاركة)، كما أنَّ هناك عناصر أخرى مثل العنصر الاقتصادي الذي يحدِّد طبيعة العلاقة بين (المستوى الاقتصادي وعلاقات العمل) .

ومن المعروف أنَّ لكل جماعة إثنية ثقافة خاصة بها، ويجب التمسك بها وبخصوصيتها الثقافية أو حتى الحضارية ، وهذا لا يعني إطلاقاً رفض الـ (آخر)، وإنما يعني أنَّ قبوله والتسليم باختلافه واختلاف أفكاره ومفاهيمه وغيريته، يمكن أن يؤديا إلى التعاون المشترك والاعتماد المتبادل ،والحوار وصيغة القبول والاعتراف هي ما يعنيه البعض بمصطلح التسامح.

الجدير بالذكر أنَّ هذا الموقف الثقافي – الاجتماعي الذي يقر بحق الـ (آخر) في الوجود و يقبل الـ (آخر) على الرغم من اختلافه وتمايزه، والذي يرفض الاشتباك والصدام مع هذا الـ (آخر) على أرضية الخلاف وانتشاره، نشأ عن التطورات التاريخية المتلاحقة، وتحسّن وسائل الاتصال والمعلومات والمواصلات ،والتقدم التقني العلمي والتكنولوجي. هذا التقارب أدى إلى التخفيف من حدّة الفرق بين الـ (أنا) والـ (آخر). وهذا التواصل والتشارك هو الذي جعل الـ (آخر) لا يبدو (آخر) بالضبط، لأنَّ الناس يكتشفون بشكلٍ متسارع أنَّ عوامل التقارب والتشارك بينه أقوى كثيراً وأبقى من عوامل الشك والفرقة والتباعد، وهنا يكون التسامح بين الـ (أنا) والـ (آخر) قد سار متخلياً عن مكانه الذي هو عليه لنوع من المشاركة الإنسانية التي تهتم بمصير الإنسانية جمعاء دون تمييز، فعلى الرغم من الدور الذي لعبه فريق إعلامي غربي مستخدماً البروباغندا كمنهج لترويج فكرة صراع الحضارات وصراع (الأديان) في الآن نفسه. التي نادى بها العالم السياسي الأمريكي والبروفيسور في جامعة هارفرد (صموئيل هنتغتون) مع ما يخفيه ذلك من أهداف وخطط سياسية واقتصادية واجتماعية لفئة تعتمد التعميم وزرع الفوضى ونشر الحقد والكراهية و(الزينوفوبيا) العداء للأجانب وعدم التسامح.
في هذا الإطار تبقى العديد من الأسئلة مطروحةً للنقاش حول هل يمكن أن تستمر صيغة الـ (أنا) والـ (آخر) لتكون هي الصيغة النهائية الحاكمة في حياتنا الثقافية – الاجتماعية ؟ وهل هذه الصيغة تصلح في علاقات الناس داخل المجتمع الواحد وعلى مستوى البشرية جمعاء؟
إن المعرفة المتزايدة لأخوّة البشرية في أوساط الشعوب، يمكن أن تقسم العالم إلى الـ (أنا) والـ (الآخر) قسمة جديدة لا تقوم على مساحات الدول أو الحدود الجغرافية، أو الروابط القومية أو الوطنية، أو الخصائص الثقافية والمعرفية، وإنما قسمة تقوم على الـ (أنا) أي الشعب الذي يهدف إلى أن يحيا في أمنٍ وأمان وسلام ونبذ كل أشكال العنف والحروب والدمار، والـ (آخر) هم أصحاب المصالح الرأسمالية العالمية وأصحاب الشركات الضخمة والكارتيلات الكبرى ومجمعات الصناعات الحربية وهم الذين يشعلون الحروب والفتن من أجل بيع منتجاتهم العسكرية باهظة الثمن التي تنتجها مصانعهم الضخمة، أو الاستيلاء على موارد الطاقة اللازمة لصناعتهم والسيطرة على منافذ الطاقة، أو السيطرة على الأسواق وطرق التجارة لحسابهم، هذه الرؤية وهذه القسمة الجديدة أخذت تتكوَّن وتتشكل وتتصاعد بشكلٍ متسارع ،وتعبِّر عن نفسها بأشكال متنوعة ومختلفة ،وأبرزها الاحتجاجات والمظاهرات المتزايدة ضد عولمة رأس المال وسيطرة الشركات عابرة القارات ومتعدّية القوميات والجنسيات.
والواضح تماماً في هذا التشكل الجديد هو تداخل الـ (أنا) والـ (آخر) ،بمعنى أنَّ هناك توافق مصالح كبير وأهداف واضحة هي جزء من الـ (أنا) هنا وجزء من هذا الـ (أنا) هناك، أي تم تجاوز الحدود الجغرافية والتاريخ منذ صيرورته وعبر سيرورته ،والموروث الثقافي لقيم الاشتراك والتعاون والتضامن في مواجهة الـ (آخر) الذي ينتمي إلى ثقافاتٍ متعدِّدةٍ ومختلفةٍ ومساحاتٍ جغرافيةٍ وجغرافيات متباعدة في مثالنا عن الحركات المناهضة للعولمة والرافضة لها .
في غمرة هذا النزاع بين الـ (أنا) والـ (آخر) يبرز تساؤل جديد هو : هل يمكن اعتبار الحكَّام المستبدين والطغاة جزءاً من الـ (آخر) أو جزءاً من الـ ( هم ) معادية وطامعة ومضرّة ومخرّبة للـ (أنا) أي للذات الوطنية، أو القومية، أو الإنسانية بشكلٍ عام ؟ وهل يمكن الوقوف مع أنظمة الحكم المستبدة الظالمة والطاغية الناهبة لخيرات وثروات البلاد ضد القوى الأجنبية بشكلٍ عام والغربية ـ الأوروبية الأمريكية بشكلٍ خاص التي تريد الإطاحة بها من منطلق أنهم جزء من (نحن) في مواجهة (هم) ؟ أم أنه من الأفضل والأصوب أن نعتبر هذه الأنظمة وتلك القوى الأجنبية الطامعة الـ (هم) في مواجهة الـ (نحن) ضحايا الاستبداد والظلم والقهر والنهب من جانب هؤلاء الحكام وهؤلاء المستبدين، بالإضافة إلى العدوان المستمر والنهب والتدمير والتخريب من جانب هذه القوى المستعمرة الكولونيالية ؟
في هذا السياق تبدو الكثير من الأمثلة واضحةٌ أمامنا ومتجليةٌ للعيان دون أي مواربة. منها على سبيل المثال لا للحصر موقف الشعوب العربية التي تعيش على كامل التراب العربي من المحيط إلى الخليج، من قضية الديمقراطية واستبداد الحكام العرب وطغمتهم الحاكمة المتسلطة على رقاب الناس، وتدخل قوى خارجية الـ (آخر) أو الــ (هم) لفرض النموذج الغربي الأوروبي أو الأمريكي، هذا الموقف يختلف من بلدٍ عربيِّ إلى آخر كما قد يختلف ضمن البلد الواحد بين أقاليمه ومحافظاته وولاياته. وربما يرى البعض أن ينضم إلى الموقف الأمريكي والموقف الأوروبي الغربي ضد الحكام الطغاة المستبدين ،على حين يرفض البعض الآخر هذا الموقف نهائيا لأنّه خيانة للأمة وللهوية العربية والإسلامية، وتواطؤ مع المحتل الغاشم الناهب للخيرات والثروات على حساب أهله ووطنه وهويته وكرامته .

إن هذه الأسئلة الساخنة مطروحةٌ بقوةٍ في منطقتنا العربية، هذا يدل دلالةً واضحةً على أنَّ هناك نوعاً من القسمة العدوانية الـ (أنا) في مجابهة ومواجهة الـ (آخر) وهي ليست قسمة صراع الحضارات نفسها التي بشَّر بها العالِم والسياسي الأميركي، والبروفسور في جامعة هارفارد (صمويل فيليبس هنتنغتون)، وروَّج لها المؤرخ الأمريكي البريطاني اليهودي المتخصص في الدراسات الشرقية، وهو أستاذ فخري في دراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون ( برنارد لويس) وهو الذي خطط لتقسيم الشرق الأوسط ،واحتفى بها اليمين الأمريكي المتطرف، وكذلك ما جاء به العالِم والفيلسوف والاقتصادي السياسي، المؤلف، والأستاذ الجامعي الأميركي الجنسية ياباني الأصل ( يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما) من نظرية نهاية التاريخ والإنسان الأخير.
إنّ تلك المخططات وتلك المشاريع تشرف عليها نخبة أمريكية غربية أوروبية وقيادة مركزية لبلادهم ،بيد أنَّ الأمريكيين العاديين أبناء الشعب الأمريكي ليسوا جميعاً داخلين في هذه القسمة وتلك المخططات والمشاريع، ذلك أن قطاعات يعتد بها لا ترى نفسها داخلة في نطاق الـ (نحن) التي يتحدث عنها الرؤساء والقادة والنخبة الأمريكيين. كما أنَّ عدداً كبيراً من الحكّام العرب الذين وضعوا أنفسهم داخل إطار الــ (نحن) التي وضعها الرؤساء والقادة والنخبة الأمريكيين والغربيين لم يكونوا يعبّرون عن آراء جميع شعوبهم.

الجدير بالذكر إنه على صعيد منطقتنا العربية، وفي داخل كل قطر عربي على حدة، نجد هذه القسمة واضحة لا لبس فيها بين الـ (نحن) والـ (هم)، إذ إنَّ إنكار التعدّدية السياسية في ظل حكوماتٍ مستبدةٍ وطاغيةٍ شاخَت وتكلَّست عضلاتها وترهل قوامها، وتصلبت شرايينها وضاق القميص عليها، واستمرار احتكار السلطة السياسية بكل ما تعنيه من هيمنة وتسلط وقمع وظلم واستبداد ، فضلاً عن فشل هذه الحكومات في تحقيق ما رفعته من شعارات وفشلها في الإجابة عن أسئلة التقدم والتطوير والتحديث والتنمية، وإخفاقها الذريع في تحقيق الأمن والأمان الداخلي والقومي، وفشلها في الدفاع عن مكوناتها المجتمعية العربية والقومية وتمزق هويتها والحفاظ على ثرواتها وطاقاتها الكامنة وموقعها الجيواستراتيجي الهام في العالم، هذا وغيره قد خلق نوعاً من القسمة السياسية المنافقة من ناحية والتي أطلق عليها تسمية (الخائنة) و( الذيلية) ، كما خلق نوعاً من القسمة العدائية بين الحكام والمحكومين من أبناء شعبنا العربي من ناحية أخرى. ولو أتينا للحديث عن البعد الأخر في الموضوع، لوجدنا أنه على المستوى الثقافي ـ الاجتماعي توارث التعددية الثقافية والمعرفية التي تقوم على الإيمان بالحوار مع الـ (الآخر)، وبحق الـ (الآخر) في الوجود والاعتقاد والتعبيرعن آرائه بحرّية وهذه الأمور لا تؤمن بها النظم الطاغية المتكلسة الظالمة والمستبدة الحاكمة في بلداننا العربية .
في حقيقة الأمر وبعد القراءة الدقيقة لفعل الحوار وتبادل الأفكار وحرية الرأي والتعبير في معظم بلدان وطننا العربي، نجد أنَّه كاد أن يختفي الحوار بتفاعلاته مع الـ (آخر) في بلادنا العربية، فقد انتقل فعل النقد والنقد الذاتي إلى عملية تجريم سياسي وبات الـ (آخر) المختلف مع النظم السياسية والسياسات المتبعة معارضاً، وتم تصنيف المثفقين ضمن تصنيفات أمنية ومخابراتية، واختفى الحوار أو كاد ،وانتقل التجريم السياسي لـ (الآخر) المختلف والمعارض إلى الأوساط الثقافية. وتم تصنيف المثقفين إلى قسمين قسم مثقفوا السلطة ومثقفوا المعارضة، وانتشرت بذلك الكثير من قضايا التلفيق والتزوير والطعن بالآخر والتشهير في الأوساط الثقافية والفكرية. وهو أمرٌ مخيف ومرعب ومرفوض في الآن نفسه. وأصبح المثقف تحت أنظار أجهزة الأمن وجيوشها من المخبرين المتثاقفين والمتعالمين والمتفيقهين والدهماء. لذلك انحسر مفهوم التسامح وقبول الـ (آخر) المختلف في الحديث في الشأن الديني على سبيل المثال .
في الختام نرى بما نؤمن به من فهم لبنية العقل العربي وتطوره وانشقاقاته وتشتته نتيجة الصراعات الحادة التي عانى ويعاني منها ،أنه من الضروري أن تعاد صياغة أفكارنا ومفاهيمنا تجاه (الآخر) الداخلي مع العلم أنَّ فكرة الـ ( نحن ) والــ ( هم) المبنية على أساس من الاعتراف والقبول والتعاون المتبادل مع الـ (آخر) ما زالت غير ناضجة بالمعنى الكلّي والشامل ،وهي لا تزال في إطار الترجّي والأمنيات على الصعيد الثقافي والمعرفي الاجتماعي. لكننا ما زلنا نتطلّع إلى أن نجد صيغة توافقية وعقلانية ومنطقية إلى إقناع الـ (آخر) خارج نطاق جغرافيتنا العربية مع الحفاظ على هويتنا ومكوناتنا العربية والقومية وخيراتنا وثرواتنا وكرامتنا بأن يتسامح معنا على أساس فكرة الحوار وتبادل الآراء والقبول بالـ ( آخر) .

عاجل
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق