استعمِل مصطلح (الشعبوية) كثيراً في الأوساط السياسية والفكرية في الوقت الراهن للإشارة إلى اتجاهات فكرية متعدّدة، وممارسات اجتماعية مختلفة ومختلطة، وخطابات ترتبط بتوجهات وتيّارات فكرية وسياسية وحزبية ضيقة، في الأغلب تحيل إلى القدحية المبالغ فيها والديماغوجية.ففي الخطاب الشعبي، غالباً ما يختلط مصطلح (الشعبوية) بمفاهيم أخرى كالغوغائية التي هي سياسة تتملق الجماهير لاستغلال مشاعرها وأحاسيسها وكسب ودّها ،والاستحواذ على إرداتها، وغالباً من يمارس الغوغائية هم المرشحون للإنتخابات، إضافةً إلى أنّها حالة سياسية تكون فيها السلطة بيد الجماهير، كما يُطرح مصطلح الشعبوية عمومًا كشيء (يُخشى منه ومشكوك فيه).غالباً ما طُبّق على الحركات والفعاليات التي تُعتبر خارج التيار السياسي الرئيسي أو تهديداً مباشراً للديمقراطية.
والواقع أنه بالعودة إلى القواميس والمعاجم العربية والدولية في هذا الشأن، نجد أنَّ المصطلح يحيل إلى الشعب، وإلى الاتجاهات الفكرية التي تنحو إلى الموضوعية والواقعية ،في تناول قضايا المجتمع، والتوجه بصورةٍ مباشرةٍ ومبسطة ،بالخطاب إلى الجمهور، أو السعي لتعبئة المجتمع وحشده في مواجهة نظام سياسي قائم ،وطبقات سياسية ترفض التغيير والتطوير والتحديث، من خلال المراهنة على الزعيم البطل والقائد الفرد المنقذ، كسبيل لتجاوز مختلف الإحباطات والهزائم.
وفي الأغلب والأعم، يبدو أنَّ ظهور هذه النزعات يرتبط بأزمةٍ مرحليةٍ آنية ،أو مؤقتة ،يفرزها التحوّل السياسي للدول التي تشهد انتقالاتٍ سياسية، وتغييرٍ في الحكومات، وقد اقترن المفهوم بالتحوّلات السياسية الكبرى في العالم ،بخاصةٍ تلك التي شهدتها أمريكا اللاتينية منذ ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي مع رئيس جمهورية الأرجنتين لفترتين .(خوان دومينجو بيرون) (Juan Domingo Peron) (8 أكتوبر 1895 – 1974م)، الذي حاول إقناع الطبقات الفقيرة من الشعب بسياساته، ومع الزعيم الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز(Hugo Chávez) (28 حزيران 1954–5 آذار 2013)، رئيس فنزويلا الواحد بعد الستين.والرئيس الأمريكي السابق( دونالد جون ترامب Donald John Trump )، ومع تطور تكنولوجيا الاتصال الحديثة، استطاعت هذه التيارات أن تبلور خطاباً تواصلياً جديداً ومميزاً .تمكّنت من خلاله أن تنفذ إلى المجتمع ،وتدخِل في عقول الناس جملةً من المفاهيم والأفكار، وتجاوزت به أزمة التواصل السياسي التي طبعت لعقودٍ عدّة، علاقة الأحزاب والنخب الحزبية التقليدية بالمجتمع، وطموحاته ومتطلباته. وعلى هذا، فإنّ الشعبوية ترتبط، باعتبارها إيديولوجية ضعيفة التمركز، بإيديولوجية شديدة التمركز ،يديرها السياسيون الشعبويون الكبار. بالتالي، يمكن أن تندمج الشعبوية مع أشكال القومية ،أو الاشتراكية ،أو الليبرالية ،أو المحافظة ،أو الفدرالية. وفقاً لما قاله الفيلسوف الأمريكي (ستانلي لويس كافيل)( Stanley Louis Cavell) ، فإنّ (الضعف الذي تتسم الشعبوية به يضمن أن تصبح إيديولوجية متكاملة في ظل الممارسة العملية، فهي لا تتداخل مع نفسها ، بقدر انتشارها في مختلف الإيديولوجيات).ووفقاً للباحثَين مدودي وروفيرا كالتوسر، تُعتبر الشعبوية (نوعاً من الخرائط الذهنية (العقلانية) التي يحلِّل الأفراد من خلالها الواقع السياسي، ويدركونه إدراكاً لا بأس به. فقد أشار مودي إلى أنَّ الشعبوية (أخلاقية لا تصويرية). تحرض الشعبوية نظرة مزدوجة متشائمة ينقسم فيها الجميع إلى (أصدقاء وأعداء) فقط .بمعنى أنه لا يوجد مجال للحياد، إذ لا ترى هؤلاء الناس مجرد (أشخاص يمتلكون أولويات وقيم مختلفة ومتفاوتة) بل (أشراراً) أساساً. في التأكيد على نقاء المرء ضد فساد (النخبة) وصفوة ( النخبة) أو لا أخلاقيتها، والتي ينبغي أن يبقى الشعب نقياً منها وبمنأى عنها كي لا يصاب (بعدواها)، تمنع الشعبوية التسوية بين مختلف المجموعات على تنوع مشاربهم واتجاهاتهم .
وفي الأغلب الأعمّ، تقوم الشعبوية على رفض سلطة الأثرياء والنخب ،وما تعتبرهم الصفوة، والشركات الكبرى، بل يرى البعض أنَّ روادها يخاطبون عواطف الأفراد أكثر من عقولهم،ولم يكونوا يوماً موضوعيين . بما يسهل التأثير فيهم، وتوجيههم. وقد استغلت هذه التيارات استياء فئات مجتمعية عريضة من الأوضاع والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية القائمة، وكذا من تراجع الثقة بالنخب التقليدية،وقادة القوى والأحزاب ،وحتى الجمعيات الكبيرة. وضعف أداء الأحزاب السياسية بشكلٍ لافت في عددٍ من الأقطار، للترويج لأفكارها وطرح مشاريعها.
من الأمور الواضحة للعيان أنَّ الاتجاهات الشعبوية تسعى إلى الحدّ من حضور النخب ورجال الفكر والسياسية والأعيان داخل المجتمع، حيث تُعدّ أن استئثارها بالسلطة في الأغلب، يكون في غير مصلحة فئات أخرى واسعة داخل تشكيلات المجتمع، ولعلَّ هذا ما يعطي خطاباتها التحريضية قدراً من القبول في أوساط بعض الفئات الفقيرة ،والمهمّشة في المجتمع ،والتي تعاني من التمييز، وغالباً ما تقدِّم هذه التيارات أجوبة مبسطة وتبدو سهلة وميسرة التحقيق، وعمومية ،وغير عقلانية، حول عدد من القضايا والإشكالات المعقدة في المجتمع والدولة ، حيث لا تتوانى عن توظيف نظرية المؤامرة بكثافة ،كسبيل لتفسير وتحليل عدد من الأزمات القائمة ،والأحداث ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل تصل خطاباتها وبياناتها وتصريحاتها أحياناً، إلى مستوى إطلاق الإشاعات على نطاقٍ واسع، وتعمل على تضليل الرأي العام وتغيير الحقائق.
يُعرَف النهج والأسلوب المشترك لتعريف الشعبوية بالنهج التصوري. الذي يؤكّد على فكرة أن الشعبوية ينبغي تعريفها وفقاً لأفكارٍ ومفاهيم محدّدة تكمن وراء هذا النهج، على النقيض من سياسات اقتصادية معينة متبعة ،أو أساليب قيادية، قد يظهرها السياسيون الشعبويون بشيئ من البهرجة والضجيج الإعلامي ،والبروبوغندا الإعلامية في إطار هذا التعريف، يُطبَّق مصطلح )الشعبوية) على عدد كبير من المجموعات السياسية والأفراد الذين يوجهون النداءات والتصريحات والخطابات الرنانة للشعب ،ثم يعارضون هذه المجموعة مع (النخبة).بتبني هذا النهج، وعلى هذا الأساس يعرّف ألبرتزي وماكدونيل مصطلح (الشعبوية) بأنها إيديولوجية (تحرّض شعباً فاضلاً ومتجانساً ومتكاملاً ،ضد مجموعةٍ من النخب وآخرين (خطرين) يوصفون بأنهم يحرمون أو( يحاولون) حرمان الشعب ذي السيادة من حقوقه وقيمه الإنسانية ،وازدهاره ونموّهِ ،وهويتهِ وصوتهِ. على نحوٍ مماثل، عرّف العالم السياسي كارلوس دي لا توري Carlos de la Torre) الشعبوية بأنها: (خطاب مانوي يفصل بين السياسة والمجتمع فصلاً واضحاً ،على أنه صراع بين معسكرين لا يمكن التوفيق بينهما ،وخصومه الشعب وحكم الأقلية ،أو كتلة السلطة).في إطار هذا المفهوم، لاحظ موديد وروفيرا كالتاسر أنَّ فكرة الشعبوية وما تتضمن من مفاهيم وأفكار، تنطوي دائماً على انتقاد المؤسسة والدولة، ومجاملة عامة الشعب)، ووفقًا للسياسي بن ستانلي، فإن الشعبوية هي نتاج (علاقة عدائية محضة) بين (الشعب) و(النخب)، و(صفوة الصفوة من المجتمع)، و(كامنة حيثما يوجد احتمال لظهور مثل هذا الخلاف، وذلك التناقض). اقترح العالم السياسي مانويل أنسيلمي تعريف الشعبوية بأنها (شعب مجتمع متجانس ومتوافق) يرى نفسه صاحب السيادة الشعبية المطلقة ،و(يُبدي موقفاً مناهضاً للمؤسسة والدولة). هذا المفهوم يرى أنَّ الشعبوية خطاباً أو إيديولوجية ،أو نظرة عالمية. جرى توظيف هذه التعريفات وهذه المفاهيم في البداية على نطاق واسع في أوروبا الغربية، على الرغم من أنها لاقت رواجاً متزايداً في أوروبا الشرقية والأمريكتين لاحقًا.وفقاً لهذا النهج وتلك الطريقة ، توصف الشعبوية بأنها (إيديولوجية ضعيفة) أو (إيديولوجية ضعيفة التمركز)، والتي تُرى بحد ذاتها واهيةً للغاية ،فيما يتعلق بتقديم مخطط أولي للتغيير المجتمعي ومكوناته. تختلف بذلك عن الإيديولوجيات (شديدة التمركز) أو (الكاملة التمركز) كالفاشية و(الاشتراكية) والليبرالية ، نلاحظ هنا كيف تم اقتران الفاشية مع (الإشتراكية ) وهو ما يستدعي مزيداً من البحث والتقصي والتي جميعها تقدم أفكاراً ومفاهيم ،أبعد أثراً حول التحوّل الاجتماعي.
فإذا عدنا إلى عمق التاريخ ونبشناه من جذوره .لوجدنا أنَّ الشعبوية لها حضور واضح وطاغي منذ أقدم العصور. ففي اليونان القديمة، مع صعود الديماغوجيين من أمثال السياسي الأثيني ( كليون ) (مات 422 ق م) خلال الحرب البيلوبونيسية ،وهو ابن كلياينيتوس الذي ورث منه عملا مزدهرا في الدباغة، وكان أول ممثل دائم لطبقة التجار في السياسة .وانتكاس ديموقراطية أثينا، وما خَلّفَتْهُ من فوضى دفعتْ بالفيلسوف اليوناني أفلاطون وتلميذه أرسطو إلى الابتعاد ونبذ النظر بِدُونِيّةٍ إلى )جموع الرعاع(، وما ينتج عنهم من)حكم الرعاع.( وقد أثّرَ التخليط وعدم الوضوح في استخدام المصطلحات على مصطلح ) الديمقراطية) الذي أصبح سلبيَّ المضمون طيلة قرونٍ عديدة .
فقد شهدتِ الإمبراطورية الرومانية في ذلك العهد صعودَ العديد من الأباطرةٍ أو الضباطٍ الشعبويين الذين استخدموا قدراتهم الخطابية في تحريك (جموع الشعب) عاطفياً، من أجل الوصول إلى مآربهم في التسلط الاستبدادي، والهيمنة على الحكم. ويعتبر كل من الأخوين (غراكي ) في روما و (يوليوس قيصر) من أبرز هؤلاء الأباطرة والقادة الشعبويين. ويقوم الخطاب الشعبوي بشكلٍ عام على حشد الجماهير الشعبية، وإطلاق مجموعة من الشعارات والوعود الوردية ،والوعود التي من الصعب أن تتحقَّق بسهولة، من خلال أشخاص يتقنون فن الخطابة والتحدّث والتأثير في الجماهير الفقيرة والمحتاجة كما أوضحنا، وتعتبر هذه التيارات أنَّ مخاطبة الشعب لا تقتضي بالضرورة توافر آليات مؤسساتية أو إدارية تدير الأمور ، أو قنواتٍ وسيطة تقليدية كالأحزاب والقوى السياسية وهيئات المجتمع المدني.
وقد أظهرت الممارسة الميدانية في أيامنا هذه أنَّ الدول التي تستأثر فيها قيادات شعبوية برئاسة الدولة أو الحكومة، كما هو الشأن بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس السابق (دونالد ترامب)، وبريطانيا في عهد رئيس الوزراء (بوريس جونسون)، والبرازيل بقيادة (جايير بولسونارو)، كانت أكثر تضرراً بتداعيات جائحة كوفيد 19 (كورونا)، سواء على مستوى عدد الإصابات والوفيات الهائل جداً، أو الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بسبب عدم الإكتراث والاستهانة بخطر الوباء، وعدم اتخاذ ما يلزم من تدابير استعجالية في الوقت المناسب ،مما تسبب بهذا العدد الهائل من الإصابات والوفيات .وهذا بدوره أساء بشكلٍ ملحوظ للمكانة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية ولديمقراطيتها.
الشعبوية وأزماتها المتفاقمة في العالم ،، بقلم : عماد خالد رحمة

المصدرالكاتب للمركز الفلسطينى الأوروبى للإعلام