بقلم : عماد خالد رحمة – برلين
منذ أن وعينا الدنيا وبدأنا نفهم ميكانيزم الحياة، أدركنا أنَّ السياسة هي محور حياتنا اليومية من حيث هي علاقة وثيقة بين حاكم ومحكوم، وهي السلطة الأعلى في المجتمعات الإنسانية على مر العصور، حيث السلطة السياسية بما تملكه من قدرات واستطالات وأذرع ،تعني القدرة على جعل المحكوم يعمل أو لا يعمل أشياء سواء وافق عليها أو لم يوافق. لأنّ السياسة تمتاز بأنها عامة وتحتكر وسائل الإكراه والعنف بالقوة. قوة القوانين والقرارات الناظمة، والقوة المسلحة العنفية كالجيش والشرطة وأجهزة الأمن الداخلية ،وتحظى بكامل الشرعية القانونية بموجب الدستور .وكم من النظريات التي نتابعها اليوم قد راجت في العالم مثل (التفريغ الأيديولوجي)، أو (نهاية الأيديولوجيا)، (التآكل والتدرّج)،أو (بناء الجسور) قد دعمت تلك المنظومة .
في معرض تداولنا لأفكار سياسية عامة،وجدنا أنها تعمل على العناية بشؤون الدولة الداخلية والخارجية. وكان عالم الاجتماع الأمريكي هارولد لاسويل قد عرّفها بأنها تؤدي دوراً إجرائياً يتم في دراسة السلطة التي تحدّد من يحصل على ماذا من المصادر المحدودة ، ومتى وكيف. أي دراسة تقسيم الموارد البشرية في المجتمع عن طريق السلطة الحاكمة ،كما عرَّفها العالم السياسي الأمريكي ديفيد إيستون. إذاً فالسياسة تعبّرعن عملية صنع قرارات ملزمة لكل المجتمع بكافة تشكيلاته الإجتماعية، فهي تتناول قيم مادية ومعنوية، وترمز لمطالب وضغوط داخلية وخارجية، وتتم عن طريق تحقيق أهداف ومرامي ضمن خطط أفراد وجماعات ومؤسسات وهيئات وجمعيات ونخب، حسب أيدولوجيا معينة متبعة على مستوى محلي أو إقليمي أو دولي.
ومع أنَّ هذه الكلمة ـ أي السياسة ـ بشكلٍ عام ترتبط بسياسات الدول وأمور الحكومات، فإن مصطلح سياسة يمكن أن يستخدم أيضاً للدلالة على تسيير أمور أي جماعة وقيادتها بعد تسييسها، ومعرفة كيفية التوفيق بين التوجهات الإنسانية المختلفة والمتنوعة ،والتفاعلات بين أفراد المجتمع الواحد، بما في ذلك التجمعات الإثنية والدينية والأكاديميات والقوى والمنظمات المدنية والعسكرية .وليس كما عرَّفها الشيوعيون بأنها دراسة العلاقات بين الطبقات الاجتماعية. أما العلوم السياسة فهي جوهر دراسة السلوك السياسي وتفحص نواحي ومنافذ وتطبيقات هذه السياسة ،واستخدام القوة والنفوذ، أي القدرة على فرض رغبات وطموح شخص ما على الآخرين.
من هنا نرى أنه كلّما انحدر الكلام في مجال السياسة ازدادت الحاجة إلى الاهتمام بها كعلم له قوانينه وأسسه، ارتباطاً بالأخلاق والخير بشكلٍ عام. والسؤال الأول الذي ينطلق من هذه التوطئة : هل السياسة علم؟ ثم ما هي مواصفات هذا العلم وأسسه ومنهجه ؟ وهل هو علم مستقّل مثل بقية العلوم الطبيعية المتعارف عليها؟، فحتى هذه الأخيرة يتمّ توظيفها أحياناً لأغراض سياسية بعضها دنيء وسيئ. فهل يمكن الاعتماد على علم خال من الأهواء والعواطف والأطماع والانحيازات والتمييز ؟ وما علاقة السياسة بالفكر وجوهره، فهل هي تخضع له، أو هو الذي يتبعها ؟، ثم لماذا ينصرف ذهن عامة الناس إلى أنّ السياسة عمل يتّسم بالحيلة والدهاء وإخفاء الحقائق، بل والكذب المباشر أحياناً، والكذب غير المباشر أحياناً كثيرة .كما تقوم بنشر الأباطيل والإيهام والخدع الصادرة عن مؤسساتها المختصة بما بات يعرف بـ ( الطابور الخامس ) للوصول إلى أهداف ومرامي مدروسة بإحكام ؟
كتب المفكر والفيلسوف السياسي الإيطالي نيكولو ميكافيلّي كتاباً هاماً وخطيراً بعنوان : (الأمير) الذي احتفيَ في عام 2013، بمرور 500 عام على صدوره،هذا الكتاب بما يتضمنه، مثلّت السياسة جوهر الفكرة المتداولة : (الغاية تبرّر الوسيلة)، بغض النظر عن شرعية أو عدالة هذه الوسيلة من عدمها، خصوصاً بالنسبة إلى الحاكم المتربع على عرش السلطة ،لكي يدوم حكمه ويبسط سيطرته وهيمنته، علماً بأن الشرعية السياسية تقوم على عنصرين إثنين ، أولهما: رضا الجمهور، وثانيهما: المنجز المتحقّق، في حين أن المشروعية تقوم على (حكم القانون) وما يتضمنه الدستور الذي كتبوه بأيديهم.
ولعلّ الاعتقاد الشائع أنَّ )السياسي) لا يتورّع عن فعل أي شيء على الإطلاق لتحقيق أهدافه وما يصبو إليه ، بالادعاء أن غايته الشريفة تعطيه مثل هذا الحق، مبرّراً ذلك بأنّ الحقيقة معه تميل حيث يميل بزعم أفضليته، وهكذا وقع الكثير من التيارات الأيديولوجية الشمولية، أو غيرها، في مستنقع الاستبداد والطغيان، أو تبريره، أو الاستعلاء والعنصرية المفرطة، أو التمييز الديني والطائفية، فالأيديولوجيا تجيز للفرد ارتكاب الشرِّ بِنيَّة فعل الخير، فالقتل الأيديولوجي لا يُعَد شرًّا في مثل هذه الحالة ، بل وسيلةٌ للنضال ضد الشر، فهو خيرٌ إذاً.
لذا يتم استخدام العنف والتعذيب والإرهاب والفعل القسري ،والديماغوجيا والتضليل، أي القوة الخشنة والناعمة.إنَّ شَرْعَنَة العنف تعني إباحته وتبرئته في آنٍ معاً. لذا يبقى الطغاة متربعين على عروشهم تحت العنوان الواهم : (حكم المستبد العادل ). فالعنفُ يُستخدَم ويبرَّر عبر التأكيد على ضرورته، لكن استخدام العنف وشرعنته – في الواقع – هما اللذان يجعلانه ضروريّاً.في حين نجد الزعيم الهندي المهاتما غاندي يعتبر الوسيلة من شرف الغاية، لارتباطهما العضوي مثل (البذرة إلى الشجرة، والنسغ إلى اللحاء(.
والسياسة حسب الفيلسوف اليوناني أرسطو في كتابه (السياسة) تعني الأفعال النبيلة، وحسب ابن خلدون أول عالم اجتماع عربي فإنَّ السياسة هي صناعة الخير العام، وهي أمانة وتفويض، وعرَّف الواقعيون السياسة بأنها فن الممكن، أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيا وعملياً ،وليس الخطأ الشائع، وهو أنّ فن الممكن هو الخضوع للواقع السياسي وعدم تغييره بناء على حسابات القوة والمصلحة بشكلٍ عام .
ووفقاً ﻟلزعيم البلشفي فلاديمير ايليتش لينين فإنَّ السياسة تعبير (مكثّف عن الاقتصاد)، أما المنظِّرة السياسية الألمانية حنة أردنت: فقد أرجعت أصل السياسة إلى الحريّة، وهذه الأخيرة هي جوهر الفعل الإنساني الذي يقوم على الشجاعة والبراعة. ويذهب الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي كلاوزفيتز مؤلف كتاب (عن الحرب) إلى اعتبار الحرب سياسة بوسائل عنفيّة.
ويمكنننا القول إنّ (السياسة) هي علم إدارة الدولة ومؤسساتها وهيئاتها ،وفن الممكن في الواقعية السياسية وتوازن القوى، وهي تجمع الإدارة والتنظيم والتدبير والفن ضمن قواعد وأسس ومعايير إنسانية باقترانها بفعل الخير لا بفعل الشر ، وإلّا ستكون السياسة وفعلها ومنتجها شرّاً.وإذا كانت السياسة كممارسة قائمة منذ القدم وهي صراع واتفاق مصالح، فإن التأطير النظري لها كعلم بدأ عشية الثورة الفرنسية، وما بعدها، بانتشار أفكار الكاتب وأالأديب والفيلسوف وعالم النبات النمساوي ، جان جاك روسو، والقاضي ورجل الأعمال الفرنسي شارل لوي دي سيكوندا(مونتيسكيو) ، والكاتب والفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري آروويه (فولتير)، وتوماس هوبز أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنكلترا وأكثرهم شهرة، خصوصا في المجال القانوني ،حيث كان بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ فقيهاً قانونياً. والفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الإ نكليزي جون لوك، الذي عمل في مجال الحقوق والواجبات بين الفرد والدولة في إطار عقد ينظّم ذلك، حيث ارتفعت شعارات الحريّة والإخاء والمحبة والمساواة، حتى إذا ما جاءت (الدولة القومية) وبدأ (عصر الاستعمار الحديث ) أصبح الفكر مرادفاً للدولة ومكوناتها وتوجهاتها ،وابتعدت السياسة كعلم وما تمارسه من فن الممكن، عن الوظيفة الأخلاقية.
بعد الحرب العالمية الثانية برزت المكارثية، وأدرك العقل السياسي الأمريكي أنّ الفكر لا يمكن محاربته بالقمع، حيث أنتج ذلك مقدّمات لنشوء علم السياسة بمعناها الراهن الذي نراه اليوم والذي يدرّس في جامعاتنا العربية بمناهجه وأساليبه المختلفة. وكان من بين ألمع من تصدّى لهذه المهمة ما بات يعرف بأصحاب (ثقة الأدمغة Brains trus) فقد كان مصطلح ثقة الدماغ عبارة عن مصطلح وصف أصلاً مجموعة من المستشارين المقربين لمرشح سياسي أو شاغل الوظيفة، كان هؤلاء في كثير من الأحيان أكاديميين حصلوا على تقدير تقديري لخبراتهم في مجالات معينة. وهذا المصطلح يرتبط بشكل كبير بمجموعة مستشاري الرئيس الأمريكي فرانكلين دي روزفلت أثناء إدارته الرئاسية.ومن هؤلاء العاملين مع الرؤساء الأمريكيين في مجال (ثقة الأدمغة Brains trus) السياسي الأمريكي، والدبلوماسي، والخبير الاستشاري الجيوسياسي هنري كيسنجر ،والمفكر الاستراتيجي والمستشار للأمن القومي لدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر زبيغنيو بريجينسكي،والعالم السياسي الأمريكي والبروفيسور في جامعة هارفارد صاموئيل فيليبس هنتغتون ،وألموند باول وروستو، وغيرهم، وهؤلاء بلوروا رؤية رأسمالية لعلم السياسة الذي ركّز على التنوّع والتلَّون ومراحل النمو والتطور ودور النخب بإخضاع الفكر للدولة، وأصبحت النظريات المتبعة تعمل من أجل تبرير السياسات التي اتخذتها الإدارات الأمريكية. وليس كما قال الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس ) : الإنسان وحده في العالم تعتبر مقياساً لكل شيء).