الخداع ونظريات المؤامرة:
بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين.
عرف العالم (نظرية المؤامرة (Verschwörungstheoriعندما وردت لأوّل مرّةٍ في مقالةٍ متخصصةٍ بالاقتصاد عام 1920م. وجرى تداولها كمصطلح عام 1960 م، وبعد مداولات ونقاشات مكثفة تمت إضافة هذا المصطلح إلى قاموس أكسفورد الإنكليزي عام 1997 م، وهو مصطلح انتقاصي يدلّ دلالةً واضحةً على التقليل من الشخص أو الحزب أو الدولة أو أي جماعة .وهي عبارة عن ظاهرة مهمة لفهم أدوار وأساليب وألعاب السياسة . وذلك لأنها تنعكس بشكلٍ أو بآخر على الشعب لذا اعتبرت ارتداداتها سلبية بكل المقاييس . ومن أساليبها أنهاتسعى إلى شرح موقف معيّن أو حدث ما اعتماداً على معلومات ملغومة غير صحيحة لا مبرّر لها .وهي سلوك غير قانوني وغير أخلاقي، وتتضمن أفعال ونتائج مؤذية تقوم بتنفيذها دولة أو حكومة أو حزب أو منظمة أو أشخاص. ولو تتبعنا منهج (نظرية المؤامرة (Verschwörungstheori بمدلولها العميق لوجدنا أنَّ أغلب الحالات التي تبحث فيها لا تتعدى الإفتراضات غير المنطقية والتي تتناقض مع الفهم الدقيق للمسار التاريخي السائد للحقائق البسيطة المتداوَلة لأنها تعتمد على فكرة ربما تكون غائبة عن الكثيرين وهي أنها نظرة خاصة إلى الكون ومعرفة مدى اتساعه وعظمته هذا الكون محكوم بتصميمٍ ما، حسب ما أكّده العالم السياسي مايكل باركون، من أنَّ نظريات المؤامرة بشكلٍ عام ترتكزعلى ثلاثة معاييرأو ثلاثة قياسات . المعيار الأوّل : يقول إنه لا حاجة تجري في هذا العالم أو في هذا الكون بالمصادفة أبداً. المعيار الثاني : إنَّ كل شيئ في هذا الكون مترابط بعضه مع بعضه الآر ولا انفصال بينهم . المعيار الثالث : وأنّ لا شيئ في هذا الكون أو في هذا العالم يكون كما يبدو عليه.
هذه المعايير الثلاثة تعطي لمن يريد أن يخلخل موقفاً لحكومة أو حزباً أو جماعة أو شخصاً. فسحة للإضافة ضمن سياق يبدو منطقي وعقلاني ومقبول لكنه في الحقيقة يكون مزيّفاً وغير صحيح .وبذلك تكون أحد الصفات الشائعة لمصطلح المؤامرة هي تطوّر في رؤية الآخرين من عين حاقدة وعقلٍ ماكر فيه كل الخداع . فيكون لجميع نظريات المؤامرة قدرة كبيرة على مزح الكثير من المفاهيم والآراء في أدق تفاصيلها لأي معلومة أو أي دليل موجود في مواجهة من يريدون التآمر عليه. ليبدو الأمر ككتلة مغلقة تماماً غير قابلة للتكذيب أو الدحض، وعليه تصبح (نظرية المؤامرة (Verschwörungstheoriمسألة مقنعة ومقبولة بدلاً من وجود أي دليل عليها.
وهكذا فإنّ نظريات المؤامرة التي ظهرت تباعاً على تنوعها وتعدّدها تصب في اتجاه واحد، وهو أنها غير قانونية وغير أخلاقية ومؤذية. وحسب التصنيف الذي وضعه عالم السياسية مايكل باركون في كتابه الهام (ثقافة المؤامرة) أكّد فيه على وجود ثلاثة أنواع شاملة وشبه متكاملة لنظريات المؤامرة. كان أوّلها نظرية (مؤامرة الأحداثEreignisse Handlung)،وهي أفكار تسعى لتغيير مسار الأحداث ومجرياتها وتوجد قصة بديلة عن الحدث الحقيقي الذي جرى ومثال على ذلك ما جرى حول اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي وهو الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية يوم الجمعة 22 تشرين الأوّل عام 1963 في دالاس ، تكساس.فقد تم التعتيم على حقيقة الحدث وتم اختراع عدد كبير من القصص الواهية لتغيير مجرى الأحداث . ليس هذا المثال فحسب بل إنّ أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 التي استهدفت برجي التجارة العالميين في الولايات المتحدة الأمريكية قد تغيرت حقيقة ما حصل وظهرت عشرات السيناريوهات من أجل أن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من السيطرة على أفغانستان كموقع جيواستراتيجي هام في العالم .
وهناك نظرية أخرى عرفت باسم (نظرية المؤامرة المنهجيةSystematische Verschwörungstheorie)،والتي تهدف إلى السيطرة الكاملة أو شبه الكاملة على المجتمع والسلطة السياسية الحاكمة .كما تهدف إلى السيطرة على العالم بكل ما يملك من مقدرات وطاقات، وأخيراً (نظرية المؤامرة الخارقة Paranormale Verschwörungstheori)، وهي نظرية تتبناها دول قوية تملك سلاحاً فتاكاً وتهدّد فيه كل بلدان العالم التي لا تخضع لها لذا فإنها تسعى من خلال قوتها على الهيمنة على العالم، كما تسعى دائماً لتقديم معلومات غير صحيحة وغير منظقية عن شخص بهدف تدمير وجوده المعنوي والمادي وزعزته وإزالته أو تهميشه. مجمل تلك النظريات بما تنطوي عليه من خداعٍ ومكرٍ ومراوغة تعمل من ضمن نهجها على التقليل من تعقيد ما يجري في العالم وتحوّله إلى معركة سهلة وممكنة بين قوى الخير والشر.
في السياق نفسه نجد أن العالم قد توسّع في اختراع الطرق والأساليب المراوغة والمخادعة من أجل تحقيق أهدافه لذا فقد أوجد المهتمون في هذا المجال تصنيفات جديدة في مجال المؤامرة غير تلك التي ذكرناها سابقاً. مثل : (نظرية المؤامرة الواقعية Realistische Verschwörungstheorie)، التي تتضمن على خطط وطرق وأساليب تتبعها مؤسسات وهيئات وإدارات سياسية عادية تقوم بفعل التلاعب بالنظام المالي والحسابي للحصول على امتيازات خاصة غير عادلة وغير قانونية وتبدو أنها محقّة ، وتشمل مخططات الغش والمراوغة والمماطلة والتهرب الضريبي ، والعبث بالمعلومات والأرقام والحسابات، وتزوير الحقائق، والقيام بأنشطة خاضعة لدراسات خبيثة بهدف التهرب من اللوائح القانونية التنظيمية.وهناك نوع آخر من المخططات التصنيفية لنظرية المؤامرة مثل (نظرية المؤامرة بجنون العظمة Paranoide Verschwörungstheorie، هذه النظرية تتضمن الحديث عن القضايا السرية والقضايا المغلقة وعلى كيانات تقوم بهذا الفعل مدفوعةً بمرض جنون العظمة والتي قد تشمل قوى الشر .
الجدير بالذكر أنَّ الكثير من النظم السياسية والأمنية المتبعة في عدد من دول العالم اعتادت على الاشتغال بمنطق المؤامرة وإدارة الأزمات بافتعال أزمات ومن ثم إدارتها . واختراع مواقف مستندى على دلائل غامضة تهدف بالدرجة الأولى إلى صرف نظر الحكومة أو الدولة أو المواطنين أو الرأي العام عن قضاياه الأساسية الحقيقية التي يطالب بها الشعب، مستخدمين كل أشكال الخداع والمراوغة لتغطية اخفاقاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بخاصة في الحالة التي تتخبط فيها دون أن تجد لها حلولاً منطقية وعملية.
هذا النمط من التفكير وهذا الأسلوب ينطوي على قدرٍ كبير من المجازفة والخطورة، لأنه يرتكز بالأساس على قلب الحقائق وتزييفها واستبداله بمنتج أو سيناريو مبني على المكر والمراوغة والخداع .
ومن الأساليب التي يتبعها هذا النمط من التفكير هو القيام بالترويج للاعتقاد بشيئ غير واقعي أو حقيقي، أو طرح قضايا تتضمن نصف الحقيقة كي يقنعوا من يتآمرون عليه متبعين أسلوب التقية، والإغفال، والبروبوغندا، وحالة التمويه، والإلهاء، أو الإخفاء. وعلى الصعيد الشخصي يأتي خداع النفس المرتبط بسوء النية. وهو في النهاية اعتداء كبير في العلاقات بشكلٍ عام يؤدي إلى مشاعر عدم الثقة بين الشركاء وإشاعة الخيانة بكل بشاعتها.
إنّ نهج التفكير التآمري يساهم بشكلٍ مباشر في مصادرة الحريات والحقوق الإنسانية، ويعطي الأولوية والاهتمام للمصالح الشخصية على حساب المصالح العامة. وتحفل التجارب الدولية عبر مسيرتها السياسية بهذه الممارسات التي لم يتم استثناء الدول المتقدمة التي تدعي الديمقراطية كالولايات المتحدة الأمريكية التي تمارس سياسة العصا والجزرة ، ودبلوماسية المدفع.
إنّ معظم الممارسات الدولية تشيرإلى أنه كلما تعقّدت الأزمات وتشابكت واشتدّ حرج القادة وبعض صانعي القرار أمام الرأي العام من بعض المواقف والفشل في تحقيق مشروع ما فإنّ ازدياد إمكانية افتعال أزمات وعقبات وهمية جديدة أمرٌ قائم . بهذف صرف النظر عن الحقيقية القاسية التي لو استمرت ستكون عواقبها صعبة عليه. هذه الآلية وذلك الأسلوب تزداد خطورته مع التطورالتقني والتكنولوجي، وبخاصة تكنولوجيا الاتصالات الحديثة فائقة الذكاء، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي بمختلف تشعباتها وتفرعاتها التي تحوَّلت معها من آليات وطرق للتواصل إلى قنوات حقيقية للضغط وتغيير وجهات النظر وتوجيه الرأي العام وجهة أخرى، ما سمح بظهورعدد كبير من المؤثرين الذين يحظون بمتابعات واسعة في أوساط المجتمع بكل مكوناته الاجتماعية، وذلك من خلال طرح الأفكار والمفاهيم والآراء وترويج محتويات سياسية ورياضية وفنية بأشكالٍ مبهرة تدهش الآخرين، ولا تخلو في جزء كبير منها من مضامين فيها اسفاف واستخفاف بالعقول وتكون عنواناً للتفاهة، يحرِّكها أساساً هاجس السطوة الشخصية والشهرة والكسب السريع للمال والحصول على المناصب بأيسر الطرق، وكثيراً ما تكون لها علاقة قوية بحقوق الإنسان، بل تحرِّض في الكثير من الأوقات على الكراهية والبغضاء والعنف، أو تسقط في مستنقع تلك السفاسف وتساهم في نشر الشائعات والتفاهات والمعلومات الخاطئة، والجري وراء جمع المعلومات الشخصية الخاصة جداً وافتعال الفضائح بهدف الإخضاع والأذى والسيطرة .
لقد حظي رواد الترويج لتلك التفاهات بتشجيع كبير متعمّد من قِبَل جهات معينة أو حكومات أو شخصيات نافذة .في هذا المقام تعمل تلك القوى على تهميش النخب الثقافية داخل المجتمع بكل فئاته وانتماءاته، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. كما نرى العديد من المثقفين الذين يتحملون مسؤولية هذا الخراب.لأنهم لم يتفاعلوا مع أو يواكبوا مجريات الشأن العام بالنقد والدراسة والتحليل. وفضّلوا الإنزواء والنأي بالنفس.
إنّ استمرار الترويج للسفاسف والتفاهات يؤثِّر تأثيراً كبيراً على بنية المجتمع والدولة معاً، وهذا الفعل سيؤدي لا محالة إلى خطورة بالغة ، فعندما يتم ترويج عدد من المضامين التافهة السطحية وتحويلها إلى قضايا رأي عام تخص المجتمع والدولة،وتكون على حساب ملفات وقضايا رئيسية مهمة تؤرّق بال جماعات وفئات واسعة من المجتمع سيشكّل بالتأكيد حالةً من الوهن والضعف والتراخي وتفقد الدولة هيبتها عندها يتم إهدار طاقات وإمكانيات هائلة جداً ستفقد حصولها على فرصة للتعبير عن نفسها وما تحتاجه، كما يؤدي استمرار نهج السفاسف والتفاهة إلى انحراف النقاشات الموضوعية العقلانية التي تخص الشعب وهمومه وقضاياه العامة، كما أنّ استمرار هذا الترويج بتلك الطريقة الفالتة من عقال الحكمة والعقلانية غالباً ما يوازيها تغييب واضح لأدوار عدد من القنوات الوسيطة والمعتدلة داخل المجتمع، والتي يفترض أنها تحظى بقيمة اجتماعية وأخلاقية ومالية وسياسية ويمكنها أن تقوم بمهام كبيرة ومسؤوليات سياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية وثقافية، كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات، وهيئات المجتمع المدني، والإعلام المهني، ومختلف المؤسسات التربوية والتعليمية، باعتبارها صمام أمان داخل المجتمعات تعمل على الحفاظ على كينونته، ما يجعل حالة التهميش والتغييب خطراً حقيقياً يهدد استقرار الحكومات والدول والمجتمعات والشخصيات الاعتبارية، ويفقدها توازنها واستمرارها. مع أنّ مراهنة العديد من النظم السياسية والاجتماعية على تلك القنوات التي يعتقدون أنها تساهم في الخروج من مآزقها وتصريف اخفاقاتها وفقدانها التوازن الداخلي، هو خيار فاشل وغير مجدي، ذلك أن ربح رهانات التنمية والتطوير والتحديث والممارسة الديمقراطية بكل مفاعيلها، لا يتأتّى إلا بإفساح المجال أمام النخب الحقيقية لإرساء نقاشات وحوارات بنّاءة أمام القنوات المتاحة أمام الهيئات والمؤسسات والإدارات الوسيطة للاستئثار بمسؤولياتها وأدوارها المجتمعية، في إطار من الحرية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وترسيخ قواعد الأمن والسلم الأهلي الداخلي.