الأزمة الأوكرانية في عمق ( الغموض الاستراتيجي): بقلم : عماد خالد رحمة (برلين)

18 مارس 2022آخر تحديث :
الأزمة الأوكرانية في عمق ( الغموض الاستراتيجي): بقلم : عماد خالد رحمة (برلين)

.

تتجه الأزمة وتداعياتها بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية روسيا الاتحادية على الأرض الأوكرانية وتتطوّر بشكلٍ يلفه الغموض والإبهام، فبعد أن نجحت بعض مسارات الدبلوماسية لحل الأزمة جزئياً واقترابها من التهدئة، نجدها قد اندفعت من جديدة وانطلقت من مغما البركان عبر الفوهة التي تنفث حمم القذائف والصواريخ منذرةً باقتراب الوصول إلى الهاوية وإن بقيت مرابطة وبحذر شديد على مسافة بعيدة نوعاً ما من الحافة .
هذا الغموض والتواري الذي يتبعه طرفا النزاع ليس مجرد افتراض نظري وحسب ، لكنه توصيف لسياسات واستراتيجيات معترف بها من جانب مؤسسات صناعة القرار في الدول الكبرى، وتحديداً في الولايات المتحدة، وتعرف باسم (الغموض الاستراتيجي)، ويعتبر (الغموض الاستراتيجي) من الأدوات الهامة والقوية التي تستخدمها السياسة الخارجية، لتحقيق قدر مناسب ومرغوب فيه من الاستقرارالعالمي والانضباط المتوازن للمواجهات بين القوى الكبرى، حتى لا تتحول الأزمات إلى صدام مسلح تكون نتائجه كارثية على العالم، ولا يخدم مصالح أي طرف منهما في نهاية الأمر.في هذا السياق يجدر بنا إلقاء نظرة على كيفية إدارة طرفي الأزمة حول أوكرانيا من خلال تطبيق لعبة (الغموض الاستراتيجي) لأنّه من الواضح وحسب العديد من المحللين والاستراتيجيين أن تلك اللعبة يلعبها الطرفان استراتيجياً كلٌ على طريقته.
من جهتها تقدم الولايات المتحدة الأمريكية عبر مراكز دراساتها الاستراتيجية العديد من التقارير التي تؤكد أنه لا يجب أن يغيب عن القيادة الأمريكية أنَّ الدول التي تسعى جاهدةً إلى إثارة قلق ومخاوف خصومها، فهي تحرص بشدة في الوقت نفسه على تجنب استخدام الوسائل العسكرية وتحديداً الأسلحة الاستراتيجية كما أننا نقرأ ما كتبه مسؤول كبير في البيت البيضاوي إنّ ما يجري بمعظم أنواعه ومدلولاته هو نوع من لعبة استراتيجية يغلفها (الغموض الاستراتيجي) .
ومن خلال متابعة ما صدر من وجهات نظر على تنوعها واختلاف مصادرها نجدها تؤكِّد على أنَّ ما يدور على الأرض الأوكرانية له أبعاد ( الغموض الاستراتيجي Hybrid Warfare) فقد وصف العديد من المحللين الغربيين بأنَّ هذه الحرب مفتعلة في إشارة منهم إلى الأسلوب الذي تستخدمه القيادة الروسية كجزء هام وأساسي في إدارتها للصراع، هؤلاء المحللون يربطون الصراع الدائر بين جمهورية روسيا الاتحادية واللغرب الأوروبي ـ الأمريكي ، بتظرية المؤامرة،التي اعتبروها جزءاً من إدارة الصراع بين الطرفين.
وبدا أن شرح وتفسير هذه الأجواء للأزمة المتفاقمة التي نشبت بسبب حالة جمهورية أوكرانيا، تنعكس عليها مواقف تتعلق بسياسات الولايات المتحدة الأمريكية،فقد صدر تقرير مطول عن كلية الحرب الأمريكية بعنوان: (تعزيز سياسات الغموض الاستراتيجي)، وجاء فيه أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الباسفيك، كانت قد سارت على نهج سياسة (الغموض الاستراتيجي)، بهدف الإبقاء على الوضع القائم هناك دون تغيير، حفاظاً على ما تحقق لها من استقرار ورخاء. وإن مبادئ (الغموض) كانت واضحة في تفادي الولايات المتحدة الأمريكية، التورط في صدامات مباشرة مع جمهورية الصين الشعبية، لأنها أدركت أن الوضع المستقر وحالة الرخاء النسبية للعلاقة بينهما، يخدم مصالحها الحيوية.
هذه الاستراتيجية تضمنها تقرير صادر في تشرين الأول عام 2021 م، للخبير السياسي دينس هايكي والتي جاءت بعنوان : ( بايدن والغموض الاستراتيجي تجاه تايوان)، تؤكد إنّ الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن لديها التزام أمني قاطع بالدفاع عن جزيرة تايوان، المقتطعة من الصين ، فهي أبرمت معاهدة مع الصين في العام 1979 م تهدف إلى إقامة علاقات دبلوماسية بينهما وفي موازاة ذلك يتم تحقيق نمو تلك العلاقات،فقد حرصت الولايات المتحدة على اتخاذ خطوات التأييد والتعاطف تجاه تايوان، لكنها بقيت في أغلبها تدور في فلك الرمزية ، مغلفة بالغموض والتناقضات، بما يخدم المصالح الأمريكية الحيوية. ليس هذا فحسب فقد أكَّد السفير الأمريكي نيكولاس بيرنز في بكين أنّ سياسة (الغموض الاستراتيجي) هي الطريق الأسلم والأفضل لمنع نشوب نزاعات وحروب عبر مضيق تايوان.
الواضح تماماً ومن خلال العديد من هذه الوثائق التاريخية، أن السياسات المتبعة الآن حول أزمة أوكرانيا، تسير وفق خطٍ ممنهج، تعكس عدم رغبة أي من الطرفين إشعال حرب واسعة النطاق بسببها. ويدرك الطرفان روسيا والغرب الأوروبي ـ الأمريكي أنَّ العالم يمر بمرحلة لها خصوصيتها تجري فيها مراجعة النظام الدولي القائم، وهي مرحلة عادة ما تطوقها التوترات والأزمات الخانقة، وتتطلع فيها الولايات المتحدة الأمريكية لتكون لها السيطرة على النظام العالمي القادم، وتتمسك جمهورية روسيا الاتحادية من ناحيتها بأن تكون شريكاً، يُعمل حسابه في إدارة النظام الدولي الجديد الذي تتبلور معالمه على نارٍ هادئة وضمن خطة ( الغموض الاستراتيجي).

عاجل
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق